شبكة ذي قار
عـاجـل










المقدمـة : القراء الكرام! قبل ايام قليلة، قرأت تصريحا للسيد اوباما يقول : افكر ان ارفع صفة الارهاب من منظمة مجاهدي خلق الايرانية. وبما اننا مللنا، من اسلوب السيد اوباما المبطن وغير الصريح والمراوغ، والخالي من اية مسؤولية تجاه الحق والعدل، قلت في نفسي : لابد ان اكتب شيئا عن هذا الكلام الغامض، والذي لا يدل على ارادة صالحة، وفي احسن احواله لا يدل إلا على ارادة ضعيفة ومترددة Velléité، هذه الارادة الضعيفة التي يذمها مثل فرنسي حين يقول : جهنم معبدة بالإرادات الصالحة  L'enfer est pavé de bonnes intentions. وفي نص من سفر الرؤيا يقول الله بفم كاتب سفر الرؤيا لأحد رؤساء الكنائس الأولى : انا عارف اعمالك، انك لست باردا ولا حارا، ليتك كنت باردا او حارا. فبما انك فاتر ولست باردا ولا حارا، انا مزمع ان اتقيأك من فمي.

 

افكار توضيحية : عندما سمعت تصريح السيد اوباما يقول بأنه يفكر ان يرفع عن منظمة مجاهدي خلق صفة الارهاب، خطرت في بالي مباشرة خاطرتان مع تطبيقاتهم : الخاطرة الأولى تقول ان البط عندما يريد ان يسبح لا يقول لأحد بأنه يريد ان يسبح او يفكر بأن يسبح، ولكنه ينزل الى البركة ويسبح، لأن البط لا يفكر وانما يستجيب لحاجة تخلق عنده الرغبة بالسباحة، فينزل الى البركة ويسبح. اما الخاطرة الثانية التي جاءت ببالي، بشكل فوري، فهي من وحي الفيلسوف الفرنسي المحدث ديكارت، والذي يشتهر بعبارته الفلسفية التي تقول باللغة اللاتينية : Cogito ergo sum- افكر اذن انا موجود، او تسمى اختصارا الـ كوجيتو.

 

وفي الحقيقة، ليس اعطاء درس في الفلسفة، هو ما دفعني الى استحضار هذه العبارة الفلسفية، ولاسيما وأني قد تحولت، منذ زمن لا باس به، من الفلسفات الى علوم الانسان، ولاسيما،الأنثروبولوجيا منها، ولم تعد الفلسفات بالنسبة لي سوى افكـار قد تنفع احيانا في الدخول المؤقت الى  المجالات التي لم يدخلها العلم التجريبي بعد، كما تنفع للمتابعة التاريخية للفكر البشري. فماذا يمكننا ان نستفيد من كوجيتو ديكارت الذي يقول : افكر اذن انا موجود؟ من المعروف في هذا المجال، ان ديكارت كان يريد ان يقول من وراء مقولته هذه، ان الاحساس بالوجود لا يبدأ بالحواس الموضوعية اولا، والتي منها يصل الانسان الى الماهيات، كما كانت تقول الفلسفة الكلاسيكية، لكنه يبدأ بالفكر الذاتي الذي يبدأ بالتحسس للوجود، حيث لا تفصل مسافة زمنية بين المتحسسات وبين الفكر، وبين العارف والمعروف، الأمر الذي يجعل الانسان سيدا ومالكا لذاته وليس اسير الحواس الخداعة، حسب ديكارت نفسه.

 

ويبدو، ان السيد اوباما، يبقى اسير العبارة الأولى من مقولة ديكارت، والتي تقول : افكر اذن انا موجود، حيث يبدو ان اوباما هو الموجود الوحيد، لكونه الوحيد الذي يحق له ان يفكر ويحكم على كل شيء لصالحه وصالح دولته امريكا. غير ان تتمة مقولة ديكارت لم تخطر ببال السيد اوباما، كما يبدو، لأن ديكارت لا يقول فقط افكر اذن انا موجود، ولكنه يقول ايض : أفكر اذن" الآخر " موجود. وقد يكون هذا الآخر هو الكون والعالم، لكنه قد يكون هو امريكا او روسيا او الاتحاد الاوربي او الصين او اليابان. كما ان هذا الآخر  يمكن ان يكون هذا المطلق الذي يسميه البشر " الله "، كيفما تم تعريفه، دون دخول في التفاصيل اللاهوتية، هذا الاله الذي له حقوق معينة انسانية وإلهية على الانسان، ويجب ان تؤخذ هذه الحقوق بالحسبان، لئلا يصيب الانسان الندم وتحل به الكارثة، ولاسيما في الأمور السياسية.

 

اما اذا اردنا ان نجمل مفهوم الآخر ونختصره بعبارات بسيطة فنقول بان الآخر هو بالتالي كل انسان، بما انه انسان، له حقوق على اخوته البشر، كما عليه واجبات يؤديها تجاههم. غير ان " الآخر" ليس فقط كل انسان، كما عرّفناه اعلاه، لكنه خاصة " الآخر " الضعيف والفقير والمهمش، وكل من لا يملك ما يدافع به عن نفسه، او من يدافع عنه، سواء كان هذا الآخر الضعيف فردا ام جماعة.

 

غير اننا هنا، نقول للسيد اوباما بأن هذا الانسان الضعيف في الظاهر هو قوي بإنسانيته التي تصنع العجائب احيانا، " فتحط الأعزاء عن الكراسي وترفع المتواضعين " ( من نشيد مريم )، كما ان الانسان القوي في الظاهر يمكن ان يكون اضعف مخلوقات الله، في الحق والحقيقة،  كما هي الحال، مع كثير من السياسيين، ومنهم سياسيو امريكا المعتدون. وهنا ايضا نستعين مرة ثانية بكاتب سفر الرؤيا وهو يضع في فم الهه الكلام التالي الموجه الى رئيس احدى الكنائس الاولى المذكور، والذي لامه الله، ليس فقط على فتوره، ولكن ايضا، وخاصة لاعتماده على غناه وقوته، حيث نسمع الله يقول له : لأنك تقول اني انا غني، وقد استغنيت، ولا حاجة لي الى شيء، غير انك تعلم انك شقي وبائس وفقير واعمي وعريان. ترى ألا ينطبق كل هذا الكلام على ساسة الاحتلال، وعلى جميع من يعدون انفسهم اقوياء العالم، من الذين نسمع بحقهم كلاما آخر يقوله الأمام على بن ابي طالب، رضي الله عنه : اذا دعتك قوتك الى ظلم الناس فتذكر قوة الله عليك. ونضيف : اذا دعتك قوتك الى ظلم الناس فتذكر قوة الانسان عليك. بعيدا عن الفلسفة وعن النصوص الدينية، وقريبا منهما ايضا، وان كان ذلك في مجال آخر. فقد يكون الانسان ضعيفا في مجالات عديدة، ولكن يمكن ان ينقلب ضعفه الى قوة عندما تنضج الأمور الديالكتيكية ( الجدلية )، فينفجر بركانه ويقلب الأوضاع رأسا على عقب.

 

ماذا تقول لنا الأنثروبولوجيا : وهنا سوف نسمح لأنفسنا بأن نتحول من فلسفة ديكارت الى الانثروبولوجيا، فنفتش عن العلاقة بين الفكر والعمل، وبين المشاعر الانسانية والفكر نفسه. اي بين الذاتي والموضوعي، وذلك في الأمور الصغيرة والكبيرة، ومنها الأمور التي تخص لغة السيد اوباما السياسية المبطنة، وأسلوبه المراوغ، عند كلامه عن خيارات سياسية مهمة. فقد تظهر عبارة افكر في ان ارفع صفة الارهاب عن منظمة مجاهدي خلق، عبارة تفاؤلية يرجو الانسـان منها خيرا، مثلما تبدو عبارات اخرى عنده، مثل عبارة التفكير بالانسحاب المسؤول من العراق، والوعود الكاذبة التي وعدها للفلسطينيين، وجميع العبارات التي تستهل بقد وبرما وبأتمنى وبلكن، وبغير ذلك من العبارات والأحرف التي تأتي بالمستوى عينه من الغموض. ولذلك يكون من المهم، لكل من يريد ان يميز بين الحق والباطل، عند السيد اوباما، ويفرق بين ظاهر الكلام عنده وبين باطنه، ان يقوم بتحليل يعتمد الأنثروبولوجيا لكي يعرف حقيقة مثل هذه العبارات والحروف الاستدراكية المذكورة على لسان السيد اوباما، وفي قاموسه الخاص.    

 

مشكلتنا مع السيد اوباما : وفي الحقيقة ان مشكلتنا مع السيد اوباما ليست في انه يفكر، ولكنها في " الزمن " الذي يستغرقه هذا التفكير. ذلك ان من خصائص الانسان انه كائن عاقل ومفكر، ولذلك فمن الطبيعي انه يفكر قبل ان يقرر ويقدم على اي خيار. غير اننا نعرف ايضا ان  هناك زمنا معقولا ومقبولا لكل نوع من التفكير، لكي لا يفوت المفكرَ قطارُ العمل، ولكي لا يكون تفكيره تفكيرا كاذبا ومضللا، مثل الحمل الكاذب. فعندما تكون عبارة افكر ان اعمل كذا وكذا، عبارة مبطنة غايتها التسويف وعدم الالتزام الجدي بالوفاء، وعندما تكون هذه العبارة نفسها ناتجة عن تردد وعن ضعف في ارادة الاختيار، او عن حالة العجز الكامل عن القيام بعمل مطلوب اخلاقيا وإنسانيا، فان عبارة افكر هذه تنقلب الى مأساة حقيقية لمن يفكر بهذا الشكل، كما تصير كارثة لأصحاب الحق الذين ينتظرون من صاحب القرار ان ينتهي من تفكيره ويتحول الى التطبيق، بدون تردد وبدون مناورة وبدون تضليل.

 

الفترة الزمنية بين الأحاسيس والفكر : مما لا شك فيه ان الأحاسيس والمشاعر الذاتية تسبق الفكر المعبر عن هذه الأحاسيس والصور الحسية، كما ان الفكر يسبق التطبيق العملي عند الانسان. فالفكر يسبق العمل بفترة زمنية معينة، ليس فقط بحسب فلسفة ديكارت، ولكن بحسب اي تحليل انثروبولوجي رصين. وبهذا المعنى يصدق الوجوديون عندما يقولون بأن السكوت هو اختيار ايضا. ففي الحقيقة، كثيرة هي الحالات التي " يكرك " فيها السيد اوباما على بيض الثعابين الشريرة، ونقصد بذلك بيض مسروقاته من الدول الضعيفة، وهو يظهر بمظهر الأخرس والأطرش، الذي لا يستمع الى صوت الحق والى احتجاج والى بكاء وعويل المظلومين والى تنهداتهم، ولا يستطيع ان يقول كلمة حق فيما يجري على يده وجرى على يد سلفه الذي جرمته محكمة لاهور، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، كما هو معروف.

 

وعليه فإننا لا نجانب الحق اذا طبقنا مقولة الساكت عن الحق شيطان اخرس، وأن السكوت علامة الرضا، وان السكوت هو اختيار ايضا، كما يقول بعض الوجوديين، على تصرفات وخيارات السيد اوباما، مع المعتدى عليهم من ضعفاء العالم. ففي هذه الحالة يحق للمعتدى عليهم ان يشككوا في نوايا المسؤولين الأمريكيين، وعلى رأسهم رئيس دولتهم طبعا. فمن يلاحظ الفترة الزمنية التي تفصل بين الوعود الامريكية وتطبيق هذه الوعود، هذا التطبيق الذي يبدو وكأنه لن يأتي ابدا، يعرف ان هذه الوعود ليست سوى مناورات لكسب الوقت ولتضليل اصحاب الحق، وأن غاية رؤساء امريكا الحقيقية هي الاحتفاظ بأكبر قدر ممكن من الغنائم والمسروقات التي غنموها وسرقوها من ضعفاء العالم : من العراق ومن ليبيا ومن فلسطين ومن اليمن ومن سوريا، عن طريق القوة المسلحة، وعن طريق العملاء. لذلك بتنا مقتنعين من ان ضمير ساسة العالم الأقوياء قد اصبح ضميرا فاسدا ومشوها، ولم يعد الفعل الصالح، عند من يملك مثل هذا الضمير، يتبع احاسيسه الجيدة بسهولة، هذا اذا بقيت لهؤلاء السياسيين جميعهم احاسيس جيدة وسليمة فعلا.

 

وفي الواقع، قد نجد نخبة من البشر تقل عندهم الفترة الزمنية بين مطلب الخير وإغراءاته، فنرى هذا الشخص الفاضل يستجيب للخير ويعمل به، ويرفض الشر ويبتعد عنه، وكان المسافة الزمنية التي تفصل الأحاسيس عن القرار هي صفر او ما يزيد عليه قليلا، الأمر الذي يخلق لدينا قدوات ونماذج ورموز تستحق فعلا ان تجرَّ وراءها آخرين الى الفضيلة.

 

ولكن هناك من تتفاوت عندهم قدرة الاستجابة هذه فتكون مقبولة في حدود معينة وصالحة، فتكون حياة هؤلاء الناس هي الأخرى مقبولة ومثمرة. اما في الدرجات التي يكون فيها تنفيذ الخير معدوما او بطيئا جدا، اكثر من المستوى المطلوب، فنكون بالتالي امام ارادات ضعيفة وضمائر ميتة او في حالة سبات، حتى ان الارادة تتحول الى مجرد رغبة وتمنٍ لا يُنتج عملا صالحا يذكر. كما يحدث مع السيد اوباما.

 

وبما اننا لا نعمل هنا محاضرة انثروبولوجية عن الارادة والتمنيات، وعن سرعة استجابة الانسان الى دوافع الخير، فإننا نحصر كلامنا بالسيد اوباما تحديدا، لكي نعمل تشخيصا جيدا للغته السياسية الخاصة، لأن هذه اللغة تهمنا كثيرا، ولاسيما نحن ضعفاء العالم، لكي نميز بين ما هو حقيقي عنده، وبين ما هو مجرد كلام لا يتعدى ضحكا على الذقون وكسبا للوقت، من اجل تمرير كثير من الأعمال القبيحة سياسيا، من تلك الأعمال التي يقوم بها السيد اوباما، اضافة الى وظيفته، بكونه رئيسا للدولة الأمريكية العدوانية، او ورث التعامل بها من سلفه الذي وجدته محكمة لاهور مذنبا بجرائم ضد الانسانية، ومنها جرائم تعذيب الأسرى واهانتهم، هذه الجرائم التي لا زالت موجودة حتى يومنا هذا. في العراق وفي غير العراق، مع الأسف. نقول ذلك مع التذكير بأنه لم يعد مقبولا ان نفرق كثيرا بين اوباما كشخص انساني وبين اوباما كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية. فعندما يكون رأس السمكة فاسدا ومنتنا فان جسمها كله يكون كذلك، والعكس هو صحيح ايضا، حيث لا يمكن ان نبرا اي رئيس من جرائمه السياسية ضد البشر، بحجة انه يمثل دولته حسب.

 

عودة الى السيد اوباما : ومن هنا اذن نعود الى السيد اوباما الذي لا زال يفكر، في ان يرفع عن منظمة مجاهدي خلق صفة الارهاب، ويعطيها حسن السلوك، بكونه الشرطي الدولي العالمي. ولكي نحدد سؤالنا اكثر نقول للسيد اوباما، ترى كم يلزمك من الضحايا والقرابين، وربما من ديات وتعهدات تعطى لدولتك، لكي تقتنع بأن منظمة مجاهدي خلق هي منظمة سياسية تستخدم العنف مثلما تستخدمه جميع المنظمات السياسية في كثير من دول العالم، ومن بين اصدقاء الولايات المتحدة نفسها. ثم نتساءل : اذا كان رفع الظلم عن منظمة سياسية، هي منظمة مجاهدي خلق، قد استغرق كل هذا التفكير وكل هذا الوقت، فكم سوف يلزم اوباما من وقت حتى يفكر ويرفع الظلم عن العراق وأهله وحكامه الشرعيين القدماء، ويكف عن قتل اهله ونهب نفطه وخيراته الأخرى؟ وكم سوف يلزم لـ اوباما وأزلامه لكي يكف عن كذبة الديمقراطية التي يزمع ان يعطيها للعراق؟ وكم يلزمه من الوقت لكي يرفع يده الثقيلة الشريرة،  عن حملة الهوية العراقية العربية، وعلى رأسهم جميعا، الذين يملكون ذخيرة السيادة والشرعية التي ضربها مسئولو امريكا عرض الحائط، ويريدون ان يبنوا لأنفسهم عراقا مبنيا على الرمل وليس على صخرة الحق والعدل والشرعية.وكم سوف يلزم اوباما من التفكير حتى يعوض للعراق ما دمره وما نهبه منه من اقتصاد وسيادة ونظام. وبما أننا يجب ان ننهي المقال علينا ان نقول للسيد اوبام : ان من يحمل الهوية العراقية الحقيقية ليس متشددا كما تدعي، لكنك انت الوحيد المتشدد، لأنك لا تريد ان تخضع للحق والعدل لمجرد انك لا زلت ترى نفسك قويا. 

 

 

القس لوسيان جميل

تلكيف – محافظة نينوى – العراق

١٧ / أيــار / ٢٠١٢

 

 





الجمعة٢٧ جمادي الاخر ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق ١٨ / أيــار / ٢٠١٢م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب القس لوسيان جميل نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة