شبكة ذي قار
عـاجـل










قال الإمام جعفر الصادق ( ع ) " لأن أندم على العفو، خير من أندم على العقوبة".

يعرف الثأر بأنه القصاص من شخص ما من خلال تنفيذ عقوبة بحقه لأسباب متعددة فقد يكون هو او أحد افراد أسرته قد إعتدى على فرد او مجموعة من الأفراد فيثأر المعتدى عليه أو عليهم  بالقصاص من المعتدي نفسه أو أحد أقاربه بنفس الطريقة تيمنا بالقاعدة المعروفة" العين بالعين والسِن بالِسن" وهناك من يضيف الباديء أظلم. تتمثل هذه الظاهرة بأعراف قديمة قدم التأريخ نفسه تنص على ردُ الإساءة بمثلها. ولأنه تفتقرغالبا للمبررات الشرعية والقانونية الكافية للأخذ بها، لذلك نبذتها المجتمعات المتطورة كعرف، وحرمتها الحكومات بقانون.

 

على الصعيد الدولي تتخذ عملية  الثأراشكالا واساليبا مختلفة كالحروب والعدوان والتعويضات والتهديدات والإبعاد في العلاقات الدبلوماسية. لذلك فإن المجتمعات المتقدمة وإن رفضتها على الصعيد الداخلي، لكنها تتعامل معها بإيجابية على الصعيد الدولي سيما عندما يتعلق الأمر بسيادتها وأمنها وكرامتها ومصالحها! وابرز دليل ثأر الولايات المتحدة الامريكية من افغانستان والعراق بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر بإحتلال البلدين، رغم ان الذين قاموا بالعمل الارهابي لا أحد منهم من لا من العراق ولا من افغانستان! بل هم من دول عربية صديقة جدا  للولايات المتحدة.

 

ما تزال ظاهرة الثأر الفردي والعشائري سارية المفعول في المجتمعات المتخلفة كمجتمعنا، حيث يستند البعض على الآية القرآنية الكريمة (( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصور )) سورة 17/33 وكذلك (( كتب عليكم القصاص في القتلى )) سورة2/178 في تبرير أخذ الثأر. لكن بالتأكد في ظل وجود الحكومات الرصينة أصبحت السلطة القضائية هي السلطان الذي يأخذ للولي حقه بدلا من أن يثأر لنفسه وتعم الفوضى في المجتمع بتكررا عمليات الإنتقام وتوارثها. وقد ساهمت في إستمرار هذه الظاهرة في مجتمعنا مجموعة من العوامل بالرغم من وجود سلطة قضائية وقوانين تمنع الثأر الفردي والعشائري كما يفترض!

 

1- ضعف الحكومات وعدم جديتها في التعامل مع حالات الثأر رغم ضوابط الدستور التي غالبا ما يتم تجاوزها. فكل الحكومات التي توالت على العراق الحديث لم تكن حدية وجدية في التعامل مع ظاهرة الثأر مما جعلها عرفا شبه قانوني.

 

2- ضعف السلطة القضائية ووقوعها غالبا تحت سلطان أو تأثير السلطة التنفذية. مما أفقدها بعض شرعيتها وعدالتها، فهي لا تتعامل مع تكرار الظاهرة بنفس المعيار! فالقانون يُمدد ويُقلص وفقا لرغبة القضاة وحسب زوم الحكومة، وهناك مئات الشواهد على حديثنا.

 

3- قوة النزعة العشائرية وتشجيع الحكومات على هذه النزعة من خلال تحركها الدؤب لكسب العشائر وإستماتها لصفها بسبب قوة تأثيرها على الأفراد، بالرغم من موقف الدستور الواضح من العشائرية. بل إن معظم أدبيات الأحزاب السياسية قديمها وحديثها على الساحة الوطنية تنبذ العشائرية نظريا وتلتزم بها عمليا.

 

4- صغر خيمة العدالة فهي لا توفر ظلا كاملا لجميع أفراد المجتمع، فالفصل في قضايا الثأر يرتبط بمزاجية القاضي ومدى تعاطفه مع الجاني، وغالبا ما تضيع حقوق الضعفاء في باحات القضاء، كما إن بعض القضاة ينظر للثأر نظرة إيجابية بدوافع عشائرية أو دينية أو نفسية.

 

4- عدم نزاهة القضاء بشكل عام وتعاطي الرشاوي ومحاباة المسؤولين وسواد الميول الحزبية بين القضاة ولاسيما بعد الإحتلال. ولاشك ان المحاكم الجنائية هي عنوان بارز لمهزلة القضاء العراقي.

5- الدافع الديني الذي سبق أن نوهنا عليه فقاعدة العين بالعين والسن بالسن يعتبرها البعض قمة العدالة، والقانون السماوي أرفع من القانون الوضعي. ويستندون على الآية الكريمة سورة الشورى/ 31 (( وجزاء سيئة سيئة مثله )) متجاهلين تكملة الآية (( فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين )) .

 

6- التخلف الإجتماعي بصورة عامة وإنتشار الجهل والأمية وتمسك المجتمع بتقاليد الموروثة والنظرة الدونية لمن لايأخذ بثأره، فالمجتمع يعتبره جبانا ومتخاذلا، حتى لو إقتص القضاء له من المعتدي.

 

7- الإستهتار بحكم القضاء واعتبار أي حكم يصدره دون الإعدام بحق الجاني غير كاف لإقرار العدل. سيما في ظل وجود ما يسمى بتقليل الأحكام وأحكام العفو على السجناء خلال المناسبات الدينية والوطنية. لذا لاغرابة أن يُقتص من الجاني بعد إنتهاء محكوميته وخروجه من السجن.

 

8- عدم توعية المجتمع بأهمية نبذ العنف والقتل وترويج مباديء الأخاء والعفو والتسامح والتراحم. وهذه مسؤولية مشتركة تتحملها الحكومة ومؤسساتها التعليمية والتربوية أولا، وكذلك المراكز الدينية والثقافية ومؤسسات المجتمع المدني والنخب الثقافية والاجتماعية.

 

لأن الثأر هي عملية تفريغ ألم وغل داخل النفس البشرية فقد وضع القرآن الكريم دواء روحاني رائع لعلاجه يتمثل بالصبر أولا والعفو ثانيا. فقد جاء في القرآن الكريم سورة الشورى/43 (  ( ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور )) . وقد آجر جلُ جلاله العفوَ والمصلح بقوله (( فمن عفا وأصلح فأجره على الله )) سورة الشورى/40. وقد فسر سعيد بن جبير بأن المراد من الآية الكريمة بأنه  لا يجوز التعدى في القصاص وتجاوز الحدُ فيه، لأن التجاوز ظلم. والله لا يحب الظالمين. المصدر/ فتح القدير للشوكاني. ودواء الصبر يتميز بقوة مفعوله ويؤمن الشفاء من الغِل والحقد دون أضرار جانبية، وهذا ما بينه الباري في سورة فصلت/34 (( إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌ حميم )) . وكذلك في سورة النور/ 22 (( وليعفوا ويصفحوا الا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم )) .

العفو كما فسره الشيخ الكفوي بأنه" كف الضرر مع القدرة عليه". ولاشك إن العفو أفضله عند المقدرة الذي ينبع من قوة الأيمان بالله، وليس بسبب العجز والخوف.  فمن أسماء الله الحسنى العفو القدير مما يؤكد سمو منزلة العفو عند جلالته، وقد وجه الله نبيه المصطفى بقوله (( خُذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين )) سورة الأعراف/199. والمصطفى نفسه يناشد ربه" اللهم إنك عفو تحب العفو فأعفُ عني"/ صحيح البخاري. ولنا في النبي ( ص ) وعفوه عن الكفار من قريش وفي النبي يوسف ( ع ) الذي عفا عن إخوته كما ورد في سورة يوسف/92 (( قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم )) أسوة حسنة.

 

ما أروع أبو ذر الغفاري

في عهد الفاروق عَقلَ رجل فرسه لقضاء حاجة، ففك الفرس رباطه ودخل مزرعة رجل فعبث بها، فقام صاحب المزرعة بقتله. وعندما عاد صاحبه وعرف القصة رمى صاحب المزرعة بحجرة فوقعت على رأسه وأردته قتيلا. أمسك أبناء المقتول القاتل وصحبوه للخليفة الفاروق فأمر بقتله تيمنا بقوله تعالى "النفس بالنفس". فترجى القاتل الخطاب بأن يمهله ثلاثة أيام ليخبر عائلته ويتدبر شئونهم ويقضي بعض أشغاله. فوافق الفاروق بوجود كفيل ضامن على الرقبة حيث تقطع بالسيف في حال تخلفه عن وعده. ولما كان الرجل غريبا رفض الناس كفالته، فكفله أبو ذر الغفاري رغم عدم معرفته به لأنه" رأى فيه سمات المؤمنين" على حد قوله. فقال له عمر بأنه إذا تأخر الجاني عن ثلاث أيام سيقتص منه. وبعد ثلاث أيام إجتمع القوم للنظر في المسألة ولما يكن القاتل قد حضر بعد. سأل الفاروق أبا ذر عن القاتل، فأجاب بأنه يجهل مكانه، ومع الغروب وهم ينظرون للطريق لاح لهم الجاني. فكبر عمر وبقية المسلمين إبتهاجا وفرحا بحضوره، وإلا لكان أبو ذر قد  دفع حياته ثمنا لكفالته. خاطب عمر الرجل: إنك لو بقيت في باديتك لمٌ عرفنا مكانك؟ فأجابه: والله ما عليُ منك، ولكن عليٌ من يعلم السر وما يخفى، فنفذ أمرك يا أمير المؤمنين بقتلي. فسأله عمر ثانية: أين كنت؟ فأجابه: كانت هناك أموال مودوعة عندي لغير المسلمين وخشيت أن يقال ذهب الوفاء بالعهد. ثم التفت عمر الى أبي ذر وسأله:  لماذا كفلته يا اباذر؟ فأجابه: خشيت أن يقال ذهب الخير من الناس. ثم سأل الخطاب إبناء القتيل: ماذا تنظرون في المسألة؟ فردوا عليه وهم يبكون: عفونا عنه لصدقه ووفاء عهده، ولكي لايقال ذهب العفو عند الناس.

 

هذا هو الإيمان الحقيقي وهذا هو نبع الإسلام الصافي الذي شرب منه أبو ذر الغفاري وأبنا القتيل والجاني نفسه. ولنقارن هذه الحادثة بأخرى جرت في عهد الحسين ( ع ) وكانت السبب الرئيس في مأساة كربلاء ولولاها لِم صار ماصار. عنما سَجن عبيد الله بن زياد مسلم بن عقيل في الكوفة طلب الأخير أن يكتب رسالة إلى الحسين قبل أن يقتل جاء فيها" إرجع بأهلك! لا يغرنك أهل الكوفة فإنهم قد كذبوك وكذبوني، وليس لكاذب رأي" وقد وصل الكتاب الى الإمام  الحسين ومعه خبر مقتل مسلم . فأراد الرجوع وعدم إكمال المسير الى الكوفة وكان ذلك الرأي حكيم. لكن ابناء مسلم رفضوا العودة حتى يأخذوا بثأر أبيهم، فقد غمرهم الغل وفاض على عقولهم فأطفأ سراجها فرضخ الحسين لمطلبهم مكرها، وكان لإصرارهم وعنادهم على الثأرأن قتل الحسين و ( 72 ) رجلا  من ضمنهم  واولاد مسلم نفسه! تأريخ الطبري ج/4554. لو كان أولاد مسلم قد تصرفوا بحكمة وإتبعوا كلام الله وشرع جدهم النبي ( ص ) في العفو والصفح لما آلت الأمور الى تلك المأساة التي ما زلنا ندفع ثمنها حتى اللحظة دون أن يكون لنا يدا فيها.

 

من يحاجج بأن القتيل هو أخو الحسين وليس شخص عادي! نردُ عليه بأن أولاد مسلم يفترض بهم أن يكونوا قدوة حسنة للغير فهم من آل البيت رضوان الله عليهم، فإن حادوا عن شرع الله فلِمَ نلوم من هم أقل منزلة منهم في الخروج عن شرع الله؟ قارن بين موقف أبناء القتيل الذي ضمنه أبو ذر وبين أبناء مسلم وأحكم أيهم أكثر ورعا وعملا بأمر الله ونبيه؟ ومن منهم إستوعب المعاني الحقيقة للإيمان وجسدها فعلا؟ ومن الذي مثل قمة الأخلاق بإلتزامه بمبدأ العفو عند المقدرة؟ وأي الفريقين كان الأفضل موقفا في الصبر عند البلاء؟ ولأن أبناء مسلم أئمة فينطبق عليهم قول سعيد بن المسيب" لأن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة".

 

لماذا لم يلتزم اولاد مسلم بوصايا الإمام علي ( ع ) ؟

سبق أن استعرضنا موقف القرآن الكريم والنبي ( ص ) من الصبر والعفو، وسنذكر بعض مما جاء في كلام الإمام علي ( رض ) بهذا الشأن قبل الدخول في إعصار ( يا لثارات الحسين ) . وقد وردت هذه الحكم في كتب نهج البلاغة وروضة الواعظين والكافي للكليني. فقد قال فيلسوف الإسلام في الصبر" لا يتحقق الصبر إلا بمقساة المألوف" وكذلك" ثلاث من أبواب البر: سخاء النفس، وطيب الكلام، والصبر على الأذى". و" الصبر صبران صبر على ما تكره وصبر على ما تحب، والصبر من الإيمان كالرأس من الجسد ولا خير في جسد لا رأس معه، ولا في إيمان لا صبر معه". ومنها" الجزع أتعب من الصبر". وقال في الصلح" من إستصلح الأضداد بلغ المراد". وقال في العفو" أحسن أفعال المقتدر هو العفو". هذا هو الإيمان الحقيقي وهذه هي الأحكام التي تثلج الصدور عندما تشتد حرارة الغل داخل النفس البشرية فتتعطش للدماء.

 

السؤال: هل أخذ بثأر الحسين أم كلا؟ وهل يجوز رفع شعار الثأر في ظل سيادة القانون؟ ومن له الحق بالثأر للحسين وممن؟ هذا موضوع مناقشتنا القادمة بإذن الله.

 

 





الاحد١٣ رجــب ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٣ / حزيران / ٢٠١٢م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب علي الكاش نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة