شبكة ذي قار
عـاجـل










 

بين الإنسان ووطنه علاقة رحم مقدسة لا تعرف الانفصام، الوطن كالأم تعيش داخلك ولو لم ترها ولم تعش دفئها واقعا، لي ابن عم استوطن تركيا تزوج وأنجب وانقطعت صلته بنا، توفى وترك أبناء، كنت طالبا حين عرفت قصتهم وشعرت بالشوق إليهم مع أني لا أعرفهم، بحثت واستقصيت وراسلتهم وكانوا شبابا بعمري، وأول ما أصبح لدي مدخرات زرتهم، اختليت بأكبرهم كان قريبا إليّ وسألته، هل تشعر بأنك عراقي؟ صمت وقال! أعرف أصولنا عراقية، ولكني ولدت وكبرت ودرست في تركيا، احمل جنسيتها واعمل موظفا وما طرحت على نفسي هذا السؤال، لكن حينما ألتقي بعراقي أشعر برغبة الكلام معه ومساعدته، وفجأة صمت، تغيرت نبرة صوته وتساقطت دموعه ولم يستطع تداركها، هدأ فاستفسرت قال: فاجأتني بسؤالك وانتابني هاجس غريب، شعرت بهزة عنيفة استيقظت داخلي، أني حرمت شيئا جميلا ليس لي عم ولا أبناء عمومة فقدتهم وافتقرت إليهم، شعرت أني عشت عمري مبتورا طافيا على السطح ولم أكن أعلم. زار قريبي العراق وحمل ذكريات جميلة، وكتب من تركيا يقول: اجلس على الفرات أتأمل تدفقه، ألامس مياهه يُخيّل إلي أنها تنساب إليكم، أطفو على سطحها هنا، وتغذي جذوري هناك، أدمنت الجلوس على الشواطئ. اشعر باليتم، فاليتم من الوطن كاليتم من الأم وأشد.

 

جاء في الأثر قولهم “حب الوطن من الإيمان” وأذكر أن الرسول الكريم حين همّ بالهجرة إلى المدينة المنورة خاطب مكة يودعها: “والله انك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إليّ، ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت.” وتحضرني أبيات أمير الشعراء شوقي وهو على ظهر الباخرة يودع مصر منفيا إلى الأندلس، أجتزئ منها:

 

يا ابْنَـةَ اليَمِّ مـا أبـوكِ بَخِـيـلٌ    مَـالَــهُ مُـولـَعٌ بمَنْـعٍ وحَـــبْـسِ؟

أَحـــرَامٌ على بَلابِلِهِ الــدَّوْحُ    أحـلالٌ للطَّيْـرِ مِنْ كُـلِّ جِــنْـــسِ؟

وَطَني لو شُغِلْتُ بالخُلدِ عنْهُ    نازَعتْني إليهِ في الخُلدِ نَفْســـي

 

الوطن ليس ترابا أو قطعة ارض أو دار وضيعة تباع وتشترى أو تستبدل، الوطن انتماء وامتداد متصل الجذور بالإباء والأجداد والوجود والقيم، ارتباط حميمي بالذكريات والهوية، نسغ ينسل في عروق إنسانيتنا، ومثلما لا يتيسر أم بديلة للأم الحقيقية تعوض الرائحة والدفء، ترتبط المواطنة بعبق الأرض ونكهة الملح في ترابها، قال هوميروس: “ليس هناك شيء في الدنيا أعذب من أرض الوطن” ورغم أن العراق اليوم عالميا يعد أسوأ بلد للعيش يفتقد الأمان والخدمات، وأعيش في البحرين وهي جزء لا يتجزأ من وطني العربي الكبير وترابه من تراب بلدي وأهله أهلي؟ لا أجد نفسي إلا حيث نشأت، واشعر أن الموت هناك أجمل! فوطن الإنسان احلي شيء في مكنوناته يزين له الحياة والموت، يقول السياب:

 

الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام

حتى الظلام هناك أجمل. فهو يحتضن العراق

 

من حق الوطن علينا الحب والوفاء وصدق الولاء، والالتزام بعمق الانتماء، وإذا اقتضى الأمر التضحية والفداء، من حق الوطن علينا أن نكون أمناء على ترابه وكيانه فلا نفرط بسيادته وكينونته، من حق الوطن أن نحمل أمانته ونحفظ كرامته ولا نسيء إلى صورته ولا نشوه سمعته، ولا ادري والحزن يعصر قلبي كيف يعق بعض الناس أوطانهم، وليت العقوق يقتصر على الجفاء ولكن المؤلم: أن تمتد يد المواطن إلى وطنه بالعدوان وبالتخريب والتدمير بتعسف أحمق، قد يصل إلى درجة الخيانة أو الولاء لغيره مهما كانت الأسباب والدوافع؟ يقول السياب:

 

إني لأعجب أن يخون الخائنون؟

 أيخون إنسان بلاده؟

إن خان معنى إن يكون فكيف يمكن أن يكون؟

 

فهل يتسق عبث الإنسان بوطنه بتحريض من أعدائه وقيم المواطنة وثوابتها؟ ألا يعد تفجير قناني الغاز في أعماق الليل لمجرد ترويع الآمنين إساءة إلى الوطن ومساسا بنبل المواطنة؟ كيف هان على المواطن وضع القمامة والجيف وسط الشارع ليقطع طريق أبناء جلدته وحيه بأسلوب مقزز؟ كيف يحرق مدارس أطفاله وإخوانه ويحرمهم نور العلم، وربما مدرسة درس وتعلم فيها، كيف يحرق الإطارات على الطرق ويخربها، ويدمر محولات الكهرباء ويحطم أعمدتها، ويعرض أهله للخطر والمضايقات؟ وما الفرق بين المواطن والعدو؟ كيف يسمح المواطن لنفسه أن يكون حاقدا يدس السم بالعسل، شعاره “فرق تسد، لماذا يسوّد المواطن جدران شوارع بلده بكتابات مسمومة تفرق ولا تجمع، أليس هذا عقوقا وخيانة لا تجوز شرعا ولا قانونا ولا نبلا؟ متى نفيق ونستفيق؟ ولماذا يشوه المواطن سمعة بلده ويعرقل نمو اقتصاده بمظاهر عنف همجية، لماذا يتنكر لإخوة الوطن بأسلوب قبيح سافر ويتقرب من عدو طامع، أهذه حقوق المواطنة؟ ألا يمكن إيجاد وسائل أفضل وأرقى للتعبير إن كان لنا مطلب وغاية، وطريقة تكسبنا الود والتعاطف، ونحترم فيها شعوبنا وأوطاننا؟

 

 





الخميس ٣٠ جمادي الاولى ١٤٣٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١١ / نيســان / ٢٠١٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. عمران الكبيسي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة