شبكة ذي قار
عـاجـل










لم يكن الشك يخامرنا، حول المدى الزمني الذي ستستغرقه المرحلة الانتقالية في مصر للرسو على ثوابت سياسية بعد إسقاط المنظومة الحاكمة بفعل الانتفاضة الشعبية التي انطلقت بداية العام 2011. إذ أن التقدير أن المدى الزمني ليس قصيراً ومرده أن مصر ليست نقطة تفصيلية في معطى الوضع العربي، بل هي ذات أهمية استثنائية، كونها تمثل موقع القلب في جغرافية الوطن العربي، وهي الثقل السكاني الذي يقارب ثلث الأمة العربية، وهي على تعاقب المراحل التاريخية كانت مهد حضارات عظيمة ما تزال أثارها شاخصة حتى الآن. وإذا ما أضيفت هذه الميزات إلى ميزة موقعها الاستراتيجي كنقطة تقاطع بين قارات ثلاث ، لتبين مدى الأهمية للموقع المصري في التاريخي والجغرافيا والسياسة.

 

لقد أثبت تطورات الأحداث الكبرى التي عصفت وما تزال بالمنطقة العربية، أن مصر بالنسبة لأمتها العربية، هي بمثابة المصعد، ان صعدت، صعدت الأمة معها، وان نزلت، نزلت الأمة معها، وهذا ما أعطى لدورها بعداً يتجاوز دائماً حدودها الكيانية في كل مرة تقدم على ممارسة دور ينسجم وثقلها السياسي والشعبي ويحاكي الأمال المعلقة عليها. ولعل الدور الذي اضطلعت به إبان الحقبة المعروفة بالحقبة الناصرية، هو المثال الحسي، الذي ما تزال تعايشه أجيال ما بعد ثورة 23 يوليو.

 

لقد كانت مصر طيلة تلك المرحلة، أما طالبة لعمل عربي وحدوي وأن مطلوبة له إدراكاً من القوى الوحدوية في مصر وخارجها، بأن أي عمل وحدوي لا يستقيم ويكون فاعلاً وقادراً على مواجهة تحديات الداخل العربي، وتحديات الخارج الإقليمي والدولي إلا إذا كانت مصر محوراً فيه. على هذا الأساس، لم يكن لأي تغيير سياسي ليحصل في مصر إلا وتكون له تأثيرات على العمق القومي من جهة وعلى دول الإقليم المتاخمة للوطن العربي من جهة أخرى.

 

إن التغيير السياسي الذي أحدثته ثورة 23 يوليو أفرز نتائج إيجابية على المستوى القومي، وبلغت ذروتها بتحقيق وحدة سوريا ومصر والتي ما كان لها أن تتحقق لولا الدورين اللذين اضطلعا بهما عبد الناصر وحزب البعث. وانه بخروج مصر خارج حدودها في الحقبة الناصرية،  فأنها كبرت بأمتها، كما كبرت الأمة بها، واستطاعت أن تكون واحدة من المكونات الأساسية لمنظومة دول عدم الانحياز على قدم وساق مع الهند وأندونيسيا ويوغسلافيا. لكن هذا الدور ضمر، بعدما خرجت مصر من فضائها القومي وانكفأت إلى داخلها الكياني بعد احتواء وضعها السياسي ضمن ضوابط اتفاقيات "كمب دافيد" وملحقاتها السرية. واصبح دورها الخارجي، دوراً التحاقياً بالاستراتيجية الأميركية التي بنت حساباتها على ثبات الانكفائية المصرية، والتماهي مع الموقف الأميركي المحكوم بثابتتي أمن النفط "وأمن إسرائيل".

 

هذه الحسابات الأميركية التي بنيت على تقديرات الثبات والاستمرارية للنهج السياسي الذي أسست له المنظومة السياسية الاقتصادية التي أدارت الشأن المصري بعد الحقبة الناصرية، أصابها الارتباك عند انطلاق الانتفاضة الشعبية، لأن هذه الانتفاضة وبالزخم الشعبي الذي انطلقت به استطاعت إسقاط المنظومة الحاكمة في وقت قياسي، وفتحت الآفاق أمام إعادة هيكلة جديدة للحياة السياسية.

 

ونظراً لأهمية مصر، وتأثير التغييرات التي تحصل فيها على كل المشهد العربي والإقليمي، عقدت أميركاً رهاناً على دور للإخوان المسلمين في إدارة الشأن السياسي المصري، خاصة بعدما استطاعوا إيصال مرشحهم إلى الرئاسة الأولى، مستفيدين من حالة التدين العام في المجتمع المصري، فضلاً عن خبرتهم التنظيمية وإمكاناتهم المادية والتسهيلات الإعلامية التي غطت حراكهم، وعدم وجود حركة وطنية منظمة بنية وبرنامجاً يمكنها من استقطاب الحركة الشعبية ضمن آليات عمل ممنهجة.

 

لقد بدا واضحاً أن الرهان الأميركي على دور للاخوان المسلمين في استيعاب الوضع الشعبي وضبطه تحت سقف الاستراتيجية الأميركية باعثه خمسة أسباب :

 

السبب الأول : إن حركة الاخوان وجهت رسائل اطمئنان الى الإدارة الأميركية والكيان الصهيوني بأنها تلتزم وتحترم الاتفاقيات الموقعة مع الكيان الصهيوني وخاصة اتفاقية كمب دافيد وملحقاتها.

 

السبب الثاني : ان اضفاء الطابع الديني على الدولة المصرية يحاكي الهدف الصهيوني بفرض الطابع الديني على دولة "إسرائيل" ( دولة يهودية ).

 

السبب الثالث : ان استلام حركة دينية لإدارة الشأن السياسي، في بلد متعدد التكوين الديني الإيماني من شأنه أن يخلق توترات مجتمعية تغذى بالمحفزات الدينية من جهة، ويضع الاتجاه الديني في تصادم مع الاتجاهات السياسية للقوى الوطنية والديموقراطية التي تناضل لإقامة الدولة المدنية وفرض المساواة على قاعدة المواطنة.

 

السب الرابع : ان تمكين حركة دينية كالاخوان المسلمين من حكم مصر، وهي في تكوينها التنظيمي حركة عابرة للحدود الوطنية، يؤهلها أن تكون استقطابية للخط الأكثري في الانتماء الديني، وبما يحفز قوى دينية أخرى أن تشكل استقطابية للخط الأقلوي في الانتماء الديني، ويفسح المجال أمامها لتدخل في العمق القومي العربي انطلاقاً من تقديم نفسها مرجعية دينية لمكونات مجتمعية في إطار مكوناتها الوطنية. وان أكثر من يطرب لهذا الاتجاه هو النظام الإيراني الذي يقدم نفسه مرجعية سياسية ودينية لكل من يأخذ بالمذهب الشيعي معتقداً وفي نظام المعاملات وهذا ما يجعل من العرب عرضة للتجاذب بين ولاية "فقيه سني" وولاية "فقيه شيعي". وهذا كله لن يكون إلا على حساب انتماء المواطنة، والهوية القومية والهدف الاساسي إسقاط العروبة كهوية قومية جامعة للأمة، وهذا هدف صهيوني – استعماري قديم – جديد.

 

السبب الخامس: ان تقوية الاتجاه الديني المسيس، سيكون على حساب الاتجاه الوطني بأبعاده القومية ومضامينه الاجتماعية. وهذا بقدر ما يحول دون مصر من أن تلعب دورها في بعده القومي، فإنه يساهم في إبقاء الفراغ القومي قائماً وبالتالي إبقاء الحالات الوطنية العربية في حالة حصار وعدم تمكينها من الانفتاح على بعضها البعض وإسناد بعضها البعض وهي تواجه تحديات وطنية في أقطارها ونموذجه البارز الحصار السياسي والإعلامي على المشروع الوطني الذي تحمل لوءاه المقاومة الوطنية العراقية.

 

هذه الأسباب الخمسة، وهي أساسية، هي التي جعلت الإدارة الأميركية تتجاوز ارباكاتها حيال الحدث المصري وتعقد رهاناً على حركة الإخوان المسلمين، وهذا الموقف الذي كان ملتبساً عند البعض، قطع شكه باليقين بعد تصويب الانتفاضة الشعبية لمسارها في 30/ حزيران /2013. حيث أثبتت سياقات الأحداث في مصر بعد إسقاط حكم الإخوان المسلمين، ان حقيقتين أساسيتين يجدر التوقف عندهما لإعطاء تفسير عن خلفية مواقف الإخوان بعد

 

الحقيقة الأولى : ان حركة الإخوان المسلمين في مصر هي على علاقة قوية مع مركز القرار الأميركي، وهذا يفسر سلوكها السياسي والأمني الّذي لا يقتصر على البواعث الذاتية وحسب، بل تحركه الإيحاءات والإملاءات الأميركية أيضاً.

 

الحقيقة الثانية : ان حركة الإخوان المسلمين التي بات واضحاً أنها تعمل تحت سقف الاستراتيجية الأميركية، تريد إبقاء الساحة المصرية في حالة مشاغلة دائماً، وحتى تبقى هذه الساحة أسيرة وضعها الذاتي وعدم تمكين الحركة الشعبية التي نزلت إلى الميادين بالملايين من الإسراع في إعادة هيكلة الحياة السياسية وفق خارطة الطريق التي وضعتها السلطة التي تولت إدارة لمرحلة الانتقالية.

 

إن هاتين الحقيقتين، تبين أن دور الإخوان المسلمين هو دور مشبوه، ليس لأنه يغرق مصر في دوامة عنف أمني وسياسي وطائفي وحسب، بل كونه يحاكي ايضاً مصالح قوى دولية وإقليمية تضمر شراً بالأمة، ولا تريد أن تستقر الأمور فيها على ثوابت وطنية، و بما يضع مصر على طريق استعادة دورها الطبيعي كمركز قومي جاذب في الوطن العربي والذي بطبيعة الحال سيكون على حساب انتفاخ الدور الإيراني الذي لا يخفى أهدافه باختراق الأمن القومي العربي، كما سيكون على حساب الدور التركي الملتبس والذي يريد أن يقدم نفسه موازياً للدور الإيراني من خلفية طائفية.

 

هذان الدوران وأن تعارضاً في الشكل إلا أنهما يتلاقيان في المضمون، ولا سبيل للحد من اندفاعتها إلا باستعادة مصر لدورها والذي تؤهلها له إمكاناتها وقدراتها والتي إذا ما وضعت في سياق مشروع وطني تحرري، فإنه سيكون الرافعة القوية للنضال الجماهيري الذي انطلق تحت إشعار إسقاط النظام، وهو يستمر بحيوية لإسقاط حكم المنظومات الدينية.

 

من هنا، فإنه بقدر ما هو مهم، ان يفك الحصار السياسي والإعلامي عن مشروع المقاومة الوطنية العراقية، وبالقدر الذي توفر وسائط الدعم والإسناد لقوى التغيير الوطني الديموقراطي في سوريا، وبالقدر الذي يوجب توفير الدعم لجماهير فلسطين لإعادة الاعتبار للفعل المقاوم بكل أشكاله، فإن إسناد حركة التغيير الوطني في مصر سياسياً وإعلامياً وفي كل الأوساط والمنتديات هي على قدركبير من الاهمية و يجب أن يمثل ذلك أولوية لدى القوى الوطنية العربية، بكل فصائلها وأطرافها. لأنه بانتصار الاتجاه الوطني المنخرط في الحراك الشعبي في مصر، ترتسم معالم مستقبل عربي جديد، تكون للجماهير الكلمة الفصل في تحديد خياراتها السياسية والوطنية والقومية.

 

إن الانتصار للتغيير الوطني في مصر ألف بائه إعادة الاعتبار للخطاب القومي العربي سياسياً وعقائدياً، وذلك باستحضار أهداف ثورة 23 يوليو في مصر، وثورة 17-30 تموز في العراق وثورة الجزائر ( ثورة المليون شهيد )، وثورة فلسطين التي تتلخص فيها كل عناوين القضية القومية بما هي قضية تحرير وتوحيد و عناوين المسألة الديموقراطية التي ظللت الحراك الشعبي العربي ضد أنظمة الفساد و التبعية و الاستبداد وتسلط حكم المنظومات الامنية .

 

إنها مهمة كل الوطنيين العرب.

 

 

 





السبت ٢١ ذو الحجــة ١٤٣٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٦ / تشرين الاول / ٢٠١٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة