شبكة ذي قار
عـاجـل










نحن، اليوم، نعيش زمانا سادت فيه اللاعقلانية بكل ما يعنيه هذا القول من معاني سلبية تتعلق بغياب الموضوعية و الانصاف واحترام الكرامة البشرية؛ زمانا طغت فيه التعابير والصياغات الملتبسة ، أي غياب الحقيقة ،كليا، لصالح القناعات الخاصة والمصالح الضيقة على حساب الانسان ( كجنس ) ، على نحو فاضح وخائن للعقل وغادر بالإنسانية، بما تحتوي من قيم العدل والأخلاق، بالمعنيين الأرسطي والكانطي ( سواء بوصفها غاية عند الأول أو واجبا عند الثاني ) . والاعلام ، في هذا الخضم المتلاطم، شأنه شأن كافة منتوجات الذهن البشري سلاح له أكثر من وجه. وقد مرت صناعة الاعلام بمختلف أشكالها بمراحل تاريخية تبعا للأهداف المرسومة من صناع القرار ومالكي مصانع الكلام. وبرغم ما أضفي من صفات جميلة على الاعلام من قبيل " مهنية الاعلام" و" حياد الاعلام" و " أخلاقيات المهنة الاعلامية" ؛ وبرغم ما تحمل به الاعلام من رسالة نبيلة تتوخى الكفاءة العلمية والعناية بالموضوع الاعلامي ومراعاة المستوى الثقافي لدى الأفراد، والفكري لدى المجموعاتفضلا عن قضاياها الحيوية ، ظل الاعلام دائما يخدم أغراضا واهدافا مرسومة بعناية فائقة ، ولو أنها كانت مغلفة بغلاف الموضوعية والابتعاد عن التحيز مخافة " خداع الجمهور" .. هذه الأهداف والأغراض ، بمقتضى الحال وطبعة الأشياء، في صالح مالكي وممولي وسائل الإعلام .

أجل .. كان ذلك، عندما كانت القوى المنتجة للإعلام ، وهي القوى الغربية بالأساس، بحاجة للاستراحة من الحروب، وبالتالي إشاعة روح الوئام بين مكونات مجتمعاتها، وإحلال السلام بين شعوبها، بعدما أنهكتها ، أي هذه القوى، الحروب الداخلية والحروب الدولية. وهذا الخوف من الحرب الناتج عن تلك الحروب العسكرية المدمرة أوصل صناع القرار في الغرب إلى قناعة تقضي بضرورة تجنب الحروب العسكرية في حل النزاعات فيما بينها ، وإبدالها بحروب الكلام والدعاية ، في إطار إدارة الصراعات التي تنشب من حين لآخر بين هذه الدول الغربية، أو بينها وبين دول عالمية أخرى. وهذا ما سيتخذ ،لاحقا، تسمية " الحرب الباردة" بين القوى العظمى، في سياق تبريد المواجهة العسكرية التي جرت ويلات وكوارث رهيبة على البشرية. وعلى قدر ما تتسع وتيرة السباق في مجال التسلح العسكري، بهدف الردع وتوازن الرعب، وما اتسم به هذا التسابق من طور سريع ورهيب في القدرة على التدمير الشامل للبشرية، تزداد الحاجة إلى الابتعاد ، في الدول العظمى، عن خوض الحروبالعسكرية لما تشكله من خطر الإفناء الشامل للإنسانية ؛

حيث لن يكون فيه منتصر أو مهزوم في أي صراع عسكري مباشر بين هذه القوى .وهكذا، تنامت الحاجة إلى ابتكار أدوات جديدة لخوض الصرعات وتدمير العدو بوسائل "ناعمة"، تمثلت ، فيما بعد ، في حروب الكلام أو الحروب الدعائية ، التي ستعرف تصعيدا وتنميطا في أساليبها غير مسبوق في التاريخ، إن على مستوى الشراسة أو على مستوى التأثير السلبي على العدو، حتى أن بعضا من الدارسين اعتبروا هذه الحروب الدعائية أكثر فتكا ، في نتائجها، من الحروب الساخنة. وقد أطلق على هذا الأسلوب في الصراعات الدولية أسماء عديدة ، منها: الحرب الإعلامية، والحرب النفسية، وحرب الأعصاب، والحرب الدعائية وحرب الأفكار... وغير ذلك. وقد حققت هذه الحروب الإعلامية مكاسب استراتيجية هائلة في نتائجها، وبدون خسائر تذكر. فكلنا يتذكر كيف انهار التحاد السوفيتي ، وهو قوة عسكرية واقتصادية وديموغرافية جبارة، دون طلقة واحدة، بفعل الحرب الدعائية.وأصبحت الحرب الدعائية أو الإعلامية محط اهتمام المختصين والدارسين وصناع القرار الدولي ؛ وباتت موضوعا رئيسا لدى مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية والعلمية المتطورة في العالم. لقد أضحت سلاحا فتاكا ، يستخدمها صناع القرار الدولي ، من الدول الكبرى، ويخضعونها لكافة الدراسات النظرية والتطبيقات العملية في شتى العلوم، وخاصة نتائج دراسات علم النفس الاجتماعي، التي تعتمد دراسة السلوك الانساني لمعرفة المؤثرات فيه، بغية تغييره أو تعديله أو توجيهه، وبالتالي التحكم في إعادة صياغته ، على النحو المرغوب.

وعلى قدر سعة قاعدة الأهداف المطلوبة في الإعلام اليوم، وما يجلبه هذا الإعلام من منافع ، تقلصت مساحة منظومة القيم والأخلاقيات التي كانت تضبط الإعلام في بداياته ؛ لأنها قيم وضوابط تحيل إلى حقب تاريخية منسحبة ، ومضتمعها مقتضياتها القيمية والأخلاقية. فالإعلام ، في الماضي، كان مؤسسا على قيم العقلانية ومحورية الانسان ، وبالتالي كانت رسالة الإعلام تقوم على تنمية القدرات الذاتية لهذا الإنسان واحترام كرامته الآدمية، وتعزيز تحرره من الطبيعة ، ومن الغرائز والأوهام.. وحتى في أوقات الإحتراب ، كان الإعلام يتوخى ، على الأقل ظاهريا، الاستتار خلف أردية الموضوعية والحياد في نقل الخبر والتعامل في تحليل الوقائع بقدر من الأخلاق ، وتجنب التحريض على العنف. أما اليوم، فالإعلام تمت إعادة تأسيسه ، حتى وإن لم يصرح بها، على نحو آخر لخدمة أهداف مستجدة أخرى.

فالبشرية ، في الغرب، حسمت خياراتها في تغيير أدوات الصراع ، بحيث لم يكن فيه إمكان لاستخدام الحرب المادية بين شعوب هذا الغرب. ولذلك، حصل بين شعوب هذا الغرب ما يشبه العقد الأخلاقي ، على غرار العقد الاجتماعي، خصوصا فيما يتعلق بحل المشاكل داخله. ولأن الصراع أمر حتمي ، لا مناص منه، ومفيد في تقدم حركةالتاريخ ، على ذمة فيلسوف غربي ( هيجل ) ، فإن الإعلام بات سلاحا جديدا ، فتاكا ومتطورا لمواجهة الشعوب والحضارات التي تختلف في النمذج عن هذا الغرب. وهكذا، أعيد تأسيس الإعلام ، ومعه أعيدت صياغة الأهداف من ورائه، بشكل يتنافى ، كليا، مع الإعلام العقلاني، الذي استنفد غرضه ، وبات عبئا ثقيلا ، ودون جدوى.فالإعلام ، اليوم، مطلوب منه أن يلحق بالعدو، أي بالآخر في منطق الصراع الجديد، ما لا يمكن أن تلحقه به الحروب العسكرية والأوبئة الناتجة عنها. هذه، هي، الجدوى أو المنفعة المركزية لإعلام اليوم، الذي يختلف مع موروث الانسانية من القيم المشتركة. إنه يقوم على المنافسة المتوحشة بأي ثمن ، طبقا لنظرية داروين في الانتخاب الطبيعي. فالحياة للأقوى والأبقى ؛ الأمر الذي يقضي باستخدام كل وسيلة وبذل كل طاقة . ولذلك، أصبح الإعلام ، اليوم، رافعة للصوصية الدولية وحروب الإبادة والسلب والنهب والتخريب ، على نطاق دولي . ( يتواصل )
* بعض ما جاء في ورقة بالندوة التي نظمها مركز ابن خلدون حول الواقع العربي
 





الاثنين ١٢ رمضــان ١٤٣٦ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٩ / حـزيران / ٢٠١٥ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب محمد الكوري ولد العربي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة