شبكة ذي قار
عـاجـل










أولا : أساليب الإعلام، اليوم ..

تغيرت أساليب الإعلام تبعا لتغير أهداف ملاكه ، وضمن رؤيتهم للصراع وكيفيات إدارته في العالم. وضمن هذه الرؤية، يقوم الإعلام الدولي بأداء غرضين متزامنين ومتناقضين:

أما الغرض الأول فيتعلق بإحلال السلام والاستقرار في الدول الغربية، وتعزيز الديمقراطية وترسيخ المؤسسات واحترام الانسان وثقافة الاختلاف ، على أساس تجاوز الاختلافات الإيديولوجية بين شعوبه ودوله ، لصالح الصفات الثقافية المشتركة ، وتقوية مشتركات التعاون. أما الهدف الثاني، فهو ، على النقيض من الأول، يعتمد تأجيج الأزمات في العالم والعمل على منع حلها بتفجير الهويات الفرعية في الدول والشعوب الأخرى، وإثارة كافة أشكال الغرائز بهدف استنزاف هذه الشعوب بالنزاعات الفئوية والطائفية والمذهبية والإثنية ، والعمل بشكل حثيث على إشعال الحروب الأهلية ، التي لا تنتهي حتى تقضي على كل قوة خارج هذا الغرب، وتجعل من هذه الشعوب المفتتة ، إعلاميا، مجرد أسواق مبعثرة للسلاح . وبرغم أن العالم بحاجة ماسة إلى تعزيز أواصر التعاون بين دوله وشعوبه وتنمية القيم الانسانية المشتركة، إلا أن الإعلام ، والإعلام المقصود هنا هو الإعلام الغربي المهيمن، يمعن في :

_ تأجيج النزاعات الدولية؛
_ التحريض على التشظي والتشرذم ؛
_ بث والترويج لخطابات التصادم؛
_ استنزاف القيم الاجتماعية والمرجعيات الأخلاقية والرمزية؛
_ تشجيع ثقافة التشهير والتجريح؛
_ الاستهتار بقيمة صحة الخبر ، عبر خلطه بالاستنتاجات والتحليلات والبتر من السياق؛

_ الاستخفاف بالرموز السيادية للدول والعبث بمكوناتها الوطنية ، عبر الدس والنبش على أماكن الوجع الفئوي ، وإثارة العواطف وتشجيع ردات الفعل ولانفعال؛

_ تعميق الانقسامات والدفع إلى لغة البذاءة اللفظية؛
_ نشر الدعايات والشائعات والترويج لصنوف الكراهية والتحريض على العنف؛
_ تسريب المعلومات المغلوطة ، قصدا لتعبئة النفوس بالأحقاد؛
_ التحريف والتشويه والتزييف للحقائق والوقائع، والشيطنة المنظمة للرموز والقيادات السياسية والاجتماعية المستهدفة ؛

ولأجل بلوغ الأهداف المرسومة في أي صراع ، بقوم الإعلام ب:

1 – إضفاء المعنى على كل ما يخلو من معنى ، بتعبير تيودور لينج، لتسفيه الثقافة والمثقفين؛

2- تعطيل قدرات التخيل عند المتلقي بالصورة النمطية المكررة وتشتيت الذهن لمنع العقل من تحليل الوقائع وتوقع الاحتمالات وطرح البدائل؛

3- تخريب قابليات التنبيه بغية التحكم في الانفعالات والميول والحوافز العقلية لإقصار المتلقي على مستوى السلوك الحيواني؛

4- العبث بالخبرات المكتسبة والمختزنة في الذاكرة الفردية والجماعية للحيلولة دون تذكر الأحداث والوقائع ( تعطيل الذاكرة بوصفها آلية استخدام الخبرات السابقة)؛

5- تطويق العقل وما له من قوى للسيطرة على الغرائز بهدف العبث بمكونات الوعي الانساني ، مثل الأحاسيس والمشاعر والانطباعات والخبرات، حتى يسهل التحكم في سلوكه كفرد وكمجموعة، ويتسنى التوجيه في ما يسمى ( غسل الدماغ ).

6- مطاردة المتلقي وإغراقه بالمعلومات المغلوطة ، وعدم منحه فرصة لالتقاط أنفاسه للحؤول دون التمكن من فحص هذه المعلومات والأفكار.

7- تحطيم المعنويات بالتهويل والتهوين ، تبعا للمقصود.

8- تحطيم جهاز المناعة الحضارية ( تتفيه العقيدة الدينية، السخرية من مقومات الهوية القومية والثقافية، وتمزيق الأواصر الاجتماعية). وكل الذي ذكرناه آنفا يصب في هدف مركزي ، هو إعادة البناء الذهني للأفراد والمجموعات ، بحيث يسهل ، في النهاية، إعادة صياغة وتشكيل الرأي لدى الشعوب والمجموعات المستهدفة ، بغرض تدمير وحدتها النفسية وخلخلة صفها وإضعاف ثقتها بنفسها ، لخلق مناخ لا يسمح بأي رأي مخالف لما يطرحه هذا الأعلام الرهيب ، الذي يمتلك أصحابه الرغبة والإرادة والموارد العلمية والمادية لإعادة صياغة العالم على النحو المرسوم عندهم، مع التمكن من إخفاء الطبيعة العدوانية لفعلهم. وليس يوجد أسلوب أكثر كفاءة في إخفاء آثار جرائم الغرب البربرية، التي يرتكبها تارة باسم تصدير الحضارة إلى الشعوب "البربرية" ومرة باسم نشر الديموقراطية وإسقاط أنظمة الاستبداد؛ أقول لا يوجد أسلوب أمثل في عملية الخداع الكوني من استخدام الإعلام في نشر الدعاية التي تحركها الكراهية وتسعر أوارها ، بحيث يتعسر وجود إمكانية للتسامح . أي أن الإعلام ، اليوم، يدفع الضحية إلى اغتصاب نفسها، وقتل نفسها ، وتدمير حضارتها وتخريب منجزاتها بأيديها تحت غطاء كثيف من الكراهية ، التي ملأت كل قلب . وهذا ما نعيشه اليوم واقعا ، نحن العرب والمسلمون . فالإعلام الدولي ( الغربي) اليوم ربما لم يعد بحاجة لإخفاء هذه الأهداف في منطقتنا العربية، على الأقل، بعد ما نجح في جرجرة الإعلام العربي والاسلامي خلفه لإنجاز أهداف الغرب في تفتيت مجتمعاتنا وإعادة صياغة وتشكيل آرائنا ، بحيث نقبل ، طيعين، ما يرسم ويخطط لنا ، ونعبر عنه باللغة المطلوبة ، غربيا. إنها حرب إعلامية فتاكة حطمت العقل العربي كليا، وهيجت مكانه كل الغرائز والعواطف ، وكل ما له طابع النزعة. إننا نندفع بكل قوتنا نحو التدمير الذاتي ، بفعل قوى مجهولة وغامضة ، تسيرنا باتجاه خدمة أغراضها. وهذه القوى ، هي الإعلام ، الذي يرفع أكثر من عنوان ، بدءا بإحياء المظالم التاريخية وإثارة الدوغمائيات الدينية المتضادة، والتي لا سبيل لإخمادها (السنة والشيعة) ، فضلا عن الإثارة المسممة لإشكاليات الاندماج والتنوع والتعدد، بأسوأ أسلوب وأشده غرائزية في مجتمعات جرى ، من قبل، تجريدها من العقل والضمير الجمعي؛ وباتت تربة صالحة لشتى الميول الهدامة، التي تحفز على ارتكاب أبشع الجرائم في حق الأوطان ، بشرا وتاريخا وحضارة وعمرانا. إنه إعلام الكراهية ، الذي يستغل عواطفنا ويحولها إلى أدوات لتدمير ذواتنا ، بعد ما أفرغنا من كل عقل وخبرة وتجربة، ليحكم علينا جماعيا بالإعدام، ويشطبنا من الوجود، بشرا وتاريخا وحضارة، دون أن يحتاج إلى خوض حروب يعطي فيه خسائر . إن واقع الأمة العربية، اليوم، بما فيه من دماء ودمار وآلام واحتلال وعمالة وخيانة، هو، في النصيب الأكبر، من مسؤولية إعلام الكراهية ، الذي استخدم ، على أوسع نطاق مستفيدا من تنوع وتطور وسائط التواصل والاتصال، ولكن أيضا مستغلا غياب العدالة الاجتماعية والحريات العامة، طوفانا من الشائعات وروج لكل ما يمكن تصوره وما لا يمكن تصوره من خطابات الكراهية؛ واستخدم جميع صنوف الدعوات على التحريض على العنف والغرائزية الدينية المزيفة ( فتاوي الدم العابرة للفضاء)، فضلا عن إثارة العصبيات العنفية العرقية والفئوية والمذهبية والعشائرية، وبث تعميمات التكفير والتضليل المتبادلة، والمغالطات والأكاذيب والصور النمطية المفبركة؛ الأمر الذي أغرق العديد من أقطارنا العربية في فوضى إعلامية طاحنة ، قادت في النهاية إلى تصفية هذه الأقطار. ومن الغريب أن كل هذه الكوارث ، التي ترتكب في أوطاننا تجد من بيننا من يدافع عنها باسم "قداسة الإعلام" ، وينسى هؤلاء أن الغربيين ، أنفسهم، وهم صناع ملاك الإعلام، نصبوا محاكم لإعلاميين عندما نشروا ما يدعو إلى العنف الاجتماعي ( محاكم نير انبيرغ شملت إعلاميين، وفي تسعينيات القرن الماضي حوكم، في محاكم دولية، إعلاميون أفارقة لما قاموا به من ترويج وتشجيع على العنف في مجازر روندا...).

ثانيا: متطلبات حرية التعبير..

رأينا ، من قبل، الجانب السلبي من سلاح الإعلام واطلعنا على قدرته التدميرية المرعبة للمجتمعات، حتى بات السلاح الأكثر فتكا في حروب هذا القرن. ولكن الإعلام له وجه إيجابي آخر، أشرنا إليه في مستهل هذه الورقة . وجه إيجابي ، جدا، إذا ما استخدم لرقي الانسانية وتوسيع نطاق الحرية وتنمية مساحة الوعي العمومي ، وشحذ أدوات العقل في النقد والفحص، وتعزيز روح التسامح والتعايش ، والقبول بحق الاختلاف والتنوع. فبدون إعلام حر ومستقل عن جميع القيود والتأثير والتحكم ، لا للشعوب أن تزدهر ، ولا أن تواجه بطش الاستبداد ومكر أنظمة الفساد ، التي ترهق الشعوب وترهبها عن التصدي لنماذجها المشؤومة. كما أن الإعلام الحر هو الوسيلة الأنجع للدفاع عن حقوق المواطنين ومصالحهم. فلا يتأتى إقامة ديموقراطية حقيقية ، بمؤسساتها، وتقاليدها، وثقافتها، وأعرافها في غياب حرية التعبير. وههنا، كان لزاما في الدول الديموقراطية، أ، توضع التشريعات والقوانين والضوابط لحماية الإعلام من السلطة التنفيذية ، ومن كل أشكال التأثير والاستبداد ، حتى يتمكن الإعلاميون من الولوج إلى المعلومات الصحيحة ، من مصادرها الأصلية، وعبر اطلاعهم على ماله صلة بحقوق الجمهور والرأي العام، من معلومات تدخل في نطاق الحق في المعرفة، الذي تكفله الدساتير الديموقراطية. كما يتوجب ، حلى نحو ملزم، تحسين شروط الحياة الكريمة للإعلاميين ، شأنهم شأن رجال القضاء لخطورة ومركزية الدور الذي يقومون به، سلبا أو إيجابا، في المجتمعات.

ثالثا: ضرورة التقيد بالمهنية واستحضار المسؤولية..

هكذا، أدركنا مدى الخطورة التي يمكن لرجال الإعلام أن يقودوا إليها ، وعشنا ، في أيامنا هذه ، كيف أن فضائيات وإذاعات كانت الأشد في تمزيق مجتمعات ، وأنها كانت الأقدر على تعديل وقلب الأوضاع باتجاه الحرب أو السلام ، على حد سواء. وإذا كان من المرفوض وضع قيود وتعقيدات على الإعلام، فإنه من المرفوض ، كذلك، ترك الحبل على الغارب للإعلام يفعل كيف يشاء من تمزيق وتوتير وتحريض وإثارة للرأي العام وتشجيع على العنف، بحجة حرية التعبير أو حرية الإعلام، بما قد ينقلنا من استبداد الأنظمة إلى استبداد الإعلام. فالحرية والمسؤولية صنوان في الإعلام وفي غيره، يسيران معا ، وكل منهما ضرورة وجودية للأخرى. فلا حياة لأي منهما في غياب الأخرى. فالحرية بدون مسؤولية فوضى وهلاك. والمسؤولية بدون حرية عبث وظلم. ومراعاة لهذا التلازم، وضع المختصون ، منذ ما يزيد على قرن من الزمن ضوابط ونواظم وقواعد سلوك تحكم ممارسة وصناعة المادة الإعلامية ؛ وأطلقوا عليها " المهنية الإعلامية" وأحيانا " أخلاقيات المهنة" أو " أدبيات المهنة". زمن هذه الأدبيان، نذكر:

_ توخي الصدق والحياد في نشر الخبر ؛
_ الاعتذار للجمهور عن الأخطاء في نشر أخبار ومعلومات تبين كذبها أو زيفه؛
_ العمل على تعزيز روح التسامح والمحبة بين المكونات الشعبية؛
_ احترام المقدسات الدينية والخصوصيات الثقافية للمجموعات،
_ تجنب تأجيج النزاعات التي تؤدي إلى اندلاع الحروب والعنف ، أو ما قد يتسبب في جرائم القتل والتهجير ؛
_ تجنب التحريض على الأفراد أو المؤسسات ، وما قد يسيء إلى سمعة الفرد أو شهرة المؤسسة، دون وجه قانوني؛
_ صيانة واحترام سيادة الدول وتجنب المس بوحدتها الوطنية وحوزاتها الإقليمية؛
_ استشعار المسؤولية في إقامة ثقافة المواطنة وترسيخ ثقافة التسامح والتعايش الاجتماعي؛
_ الابتعاد عن الإفراط في استخدام التشويق الذي يقترب من الإثارة ، الذي يقود إلى التطرف أو الغلو الهدام؛

ما نستنتجه من هذه الورقة أن الإعلام ، بكل اشكاله : المطبوع والمسموع والمرئي، وكذلك ما يطلق عليه الإعلام البديل ، هو سلاح ممتاز في بناء المجتمعات وتماسكها ورقيها ، وفي تنمية الديموقراطية وتقاليدها ، وكذلك في تعزيز العلاقات الدولية والتعاون بين الشعوب. هذا إذا هو اتخذ لنفسه هذه الرسلة النبيلة. وهو، في ذات الوقت، أكثر الأسلحة إيذاء وتحطيما للدول ونسفا للسلم العالمي؛ وهو أصعبها معالجة في نتائجه ، لأنه يعبئ القلوب بالكراهية ، ويعمر الصدور بالأحقاد، التي قد تستمر في تدمير الأجيال ، لعقود عديدة.

ومن المحزن أن هذا التدمير قد يكون بسبب خبر كاذب أو تقرير مضلل، فيترتب على ذلك إشعال للحروب وارتكاب للمجازر والتهجير والإبادة ( وضعية العراق، ليبيا، سوريا...).

إن الذاكرة ما تزال طرية بسيول الكذب والزيف والتحريض على الفتن والاقتتال ، فيما يعرف ب " الجحيم العربي" ، الذي أشعلته فضائيات ، وما زالت نيرانه تلتهم كل شيء.

وإذا ما استمرت هذه الفوضى التي تحركها قوى دولية عبر الإعلام على هذا النحو المروع، فستقضي ، أولا، على الدول والشعوب الضعيفة، ولكن نتائجها الكارثية سوف ترتد على من يحركونها من خلف الستائر؛ وعندها سوف تختنق البشرية بأيديها، مصداقا لاستشراف ويلز في كتابه " العقل يصل إلى آخر حدوده"، حين قال: " إن الانسان العاقل عليه أن يخلي مكانه لنوع آخر من الحيوان أفضل تكيفا ليواجه المصير المحتوم الذي يطبق بسرعة متزايدة على البشرية"..

* بعض ما جاء في ورقة بالندوة التي نظمها مركز ابن خلدون حول الواقع العربي





السبت ١٧ رمضــان ١٤٣٦ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٤ / تمــوز / ٢٠١٥ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب محمد الكوري ولد العربي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة