شبكة ذي قار
عـاجـل










وبخصوص رفع العقوبات عن ايران ، كان رأس النظام الإيراني خامنئي ورئيس الجمهورية وشتى المسؤولين قد تعهدوا في خطب عصماء وأيمان مغلظة أنهم لن يوقعوا اتفاقية التخلي عن برنامجهم النووي إلا إذا رفعت أميركا والدول الغربية ومجلس الأمن جميع العقوبات فورا، أي إن التوقيع يجب ان يقترن بالرفع الفوري لكل العقوبات. في التاسع من نيسان / ابريل 2015 أكد الرئيس حسن روحاني أن إيران تطالب برفع كل العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها في اليوم الأول من تطبيق الاتفاقية مع القوى الكبرى حول ملفها النووي وقال في خطاب بمناسبة يوم التكنولوجيا النووية بثه التلفزيون الإيراني مباشرة: “ لن نوقع أي اتفاقية إذا لم تــُلغ كل العقوبات يوم دخول الاتفاقية حيز التنفيذ”. ( 8 )

وبعد توقيع الاتفاقية انبرت أجهزة الدعاية الإيرانية تتحدث عن "الانتصار الكبير الذي حققته جمهورية إيران الإسلامية برفع جميع العقوبات فور توقيع الاتفاقية".

غير إن الاتفاقية تقول شيئا آخر. فقد نصت على عدم البدء برفع العقوبات المتصلة بالبرنامج النووي إلا بعد أن يحسم مجلس الأمن في نهاية هذا العام المسائل المعلقة التي طالما أثارتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية في المرحلة الماضية بشأن شكوكها بوجود جوانب عسكرية في برنامج إيران. وطلبت الاتفاقية من إيران أن تقدم إجابات للوكالة على هذه المسائل المعلقة بحدود 15 تشرين أول / اكتوبر2015 .وتقوم الوكالة بدراستها وتقديم تقرير بشأنها الى مجلس الأمن بحدود منتصف شهر كانون الأول / ديسمبر 2015. ويُعدُ قبول الوكالة الدولية واقتناع مجلس الأمن بهذه الإجابات شرطا أساسيا للبدء بعملية رفع العقوبات على مراحل وليست دفعة واحدة، طبعا بعد تنفيذ الالتزامات الأخرى التي نصت عليها الاتفاقية.

وقد تحدث كيري عن هذه الالتزامات فقال:" لن يبدأ رفع أي من العقوبات المفروضة إلا حينما تكون طهران قد أوفت بالتزاماتها النووية الأساسية التي تعهدت بها في الاتفاقية. على سبيل المثال، بعد أن تزيل قلب مفاعل آراك، وعندما تكون قد أزالت أجهزة الطرد التي وافقت عل إزالتها، وبعد أن تشحن كمية اليورانيوم المخصب الى الخارج أو تكون قد تخلصت منه. بعد أن تنفذ هذه الالتزامات وغيرها يبدأ تخفيف العقوبات على مراحل. أما بعض القيود المفروضة على التسلح والانتشار ( النووي ) فستبقى لبضع سنوات قادمة". ( 9 )

وأعادت مساعدته وندي شيرمن التأكيد على هذه الشروط يوم 5 آب / اغسطس 2015 في حديث أمام لجنة الشؤون المصرفية لمجلس الشيوخ الأمريكي قائلة: لابد أن يفكك النظام الإيراني ثلثي أجهزته للطرد المركزي، ويقلص اليورانيوم المخصب من 12000 كيلوغرام إلى 300 كيلوغرام، ويصب الخرسانة في مركز مفاعل النووي في مدينه أراك. ويخضع منشآته النووية للرقابة على مدار 24ساعة ، و يلبي جميع الخطوات التي طلبتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية لمعالجة برنامجه العسكري النووي المحتمل بحلول 15 تشرين الأول / اكتوبر2015. ولن ترفع اي عقوبة عنه مادام لم ينفذ النقاط المذكورة. ( 10 )

ورغم أن الاتفاق نص على تشكيل آلية لفض أي نزاع قد يحدث عند التنفيذ بعرضه على مجموعة الدول السبع الموقعة على الاتفاقية ويعتمد قرارها بالأغلبية، إلا انه ليس متوقعا ان يكون القرار في أي نزاع لصالح إيران لسبب بسيط هو ان الدول الغربية لها 4 أصوات ( أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا ) في مقابل 3 دول ( ايران وروسيا والصين ) ، هذا إذا افترضنا ان روسيا والصين يمكن ان تقفا مع ايران اذا حاولت التحايل على التزاماتها وهو امر ليس أكيدا. وقد نصت الاتفاقية على عودة العقوبات تلقائيا بدون الحاجة الى قرار من مجلس الأمن بمجرد مخالفة إيران التزاماتها وعدم امتثالها لشروط الاتفاقية.

البعض ممن لم يقرأ الاتفاقية ولا خلفياتها في اتفاق الإطار تداول وهما روجته أجهزة الدعاية الايرانية وهو ان الاتفاقية النووية انتصار كبير لإيران لأسباب في مقدمتها ان نتنياهو رئيس حكومة العدو الصهيوني أعلن أنه يعترض عليها بشدة. وهنا لا نريد هنا ان نشير الى رفض كثير من الأجهزة والمسئولين الصهاينة قلق نتنياهو من البرنامج النووي الإيراني وإعلاناته عن ضرورة التخطيط لضرب المنشآت النووية الإيرانية. ونكتفي بالرد الذي قدمه الرئيس الأميركي أوباما على هؤلاء في مقابلته مع فريدمن يوم 2 / 4 / 2015 ( التي نـُسبَ إليها كلام لم يرد فيها في سياق التحليل المحابي لإيران ) قائلا: " من حق إسرائيل أن تقلق بشأن ايران، وأن تحرص على أن لا تحصل على سلاح نووي، ولكن اتفاق الإطار في حال تنفيذه سيلبي الاهتمامات الستراتيجية الاسرائيلية على نحو يفوق في فعاليته أي تصرف آخر، ويقل في تكلفته على اسرائيل من أي تصرف آخر". ( 11 )

ميزان الكسب والخسارة
إن عملية تحديد ما إذا كانت إيران قد كسبت من هذه الاتفاقية ( كما يحاول مسئولوها ومؤيدوها ودعايتها الترويج له، باستثناء بعض الأصوات ) وما حجم كسبها، أو إذا كانت قد خسرت وما حجم خسارتها، أو إذا كانت قد خرجت من الأزمة بنقطة تعادل أي لا غالبة ولا مغلوبة، تتطلب، إضافة إلى ما ورد في أعلاه، استعراض الهدف الحقيقي للبرنامج النووي، وتكلفته الحقيقية، والخسائر التي تكبدتها إيران نتيجة العقوبات المفروضة عليها بسببه، وما إذا قد نالت مكسبا سياسيا في هذه الاتفاقية خارج إطار البرنامج النووي.

أولا- هدف المشروع النووي الإيراني أشارت جريدة كيهان في معرض انتقادها للاتفاق النووي إلى انه "بمثابة الهزيمة والتنازل المطلق عن أهداف المشروع النووي الذي قاومت إيران الاستعمار الغربي من أجلها عشرات السنين ". ترى ما هذه الأهداف التي " قاومت إيران من أجلها الاستعمار الغربي عشرات السنين"؟

لا يتردد المسئولون الإيرانيون في الإجابة بأن الهدف هو حيازة الطاقة النووية للأغراض السلمية. غير أن هذا الادعاء مثير للسخرية وتدحضه المعلومات التي أوردناها في أعلاه عن تفاصيل البرنامج النووي بما فيها إخفاء منشأة نووية ضخمة في مكان محصن تحت سفح جبل بمائتي قدم ، وما كشف عن بلوغ إيران الحافات الأخيرة قبل تصنيع 10 قنابل نووية. إذن لا جدال في أن حكام إيران كانوا يعتزمون صنع أسلحة ذرية. لأي غرض؟ منذ أواخر الأربعينيات، لم تعد ثمة إمكانية لاستخدام السلاح النووي. وبات الميدان الوحيد أمام الدولة المصنعة للاستفادة من السلاح النووي هو في الدفاع عن النفس لردع من يخطط لتهديد وجودها في الصميم. فبعد أن صنع السوفييت قنبلتهم النووية عام 1949، ليلحقوا بخصومهم الأميركيين الذين صنعوا القنبلة النووية في منتصف تموز / يوليو 1945 واستخدموها بعد أقل من شهر في إبادة مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين، نشأت حالة من التوازن النووي، مما فتح الباب لما سمي بسياسة الردع النووي التي تقوم على حيازة السلاح النووي ليس لاستخدامه وإنما لتحذير الخصم من مغبة التفكير بمهاجمة البلد المعني.
ولذلك تسلحت الولايات المتحدة وحليفتاها فرنسا وبريطانيا بالقنبلة النووية مقابل تسلح السوفييت والصين بهذا السلاح الفتاك. فكل من المعسكرين كان يهدد وجود الآخر. وتسلحت الباكستان مقابل التسلح الهندي. وهكذا سلح الغرب الاستعماري ( اميركا وبريطانيا وفرنسا ) الكيان الصهيوني بعد زرعه في قلب الوطن العربي لردع التهديد العربي لوجوده اللا شرعي.

والآن، هل ثمة خطر خارجي يهدد إيران في صميم وجودها فأرادت ردعه بالتسلح النووي؟

منذ أن أجبرت القوات البريطانية والروسية شاه ايران الأسبق رضا بهلوي على التنحي لصالح ولده محمد عام 1941 خشية انحيازه لألمانيا النازية بعد أن عبر عن إعجابه بهتلر، لم تتعرض إيران لخطر خارجي جدي يهدد كيانها. إذن الهدف الوحيد الحقيقي لمشروع إيران النووي ليس دفاعيا لردع أخطار خارجية محتملة، وإنما هو لابتزاز جيرانها وبالذات العرب وإخضاعهم لمخططها التوسعي الاستعماري الذي اعتمدته في سياستها الخارجية منذ أن سطا خميني وأتباعه على ثورة الشعب الإيراني ضد نظام الشاه عام 78- 1979 وأقاموا الدولة الصفوية الثانية. فقد اتبع ذات النهج الذي اعتمده إسماعيل شاه في تأسيس دولته الصفوية الأولى عام 1501 م وهو نهج الأطماع التوسعية الفارسية في محيطها الإقليمي أي جيرانها المسلمين من عرب وأتراك وأفغان ، تحت ستار نمط خاص من التشيع المتصف بالغلو الشديد والتطرف والإرهاب الدموي وإلغاء الآخر وإزالته من الوجود. وكان خميني قد اطلق هذا المخطط تحت شعار "تصدير الثورة الإسلامية"، الذي سحقه العراق في الحرب العراقية-الإيرانية في الثمانينيات وجعل صاحبه يتجرع السم على حد تعبيره. لكن إيران عادت لطرحه في عهد خلفه خامنئي بعد التسعينيات ، تحت شعار "الوقوف الى جانب الشعوب المقهورة"، وذلك بعد إنهاك العراق وتغييب دوره الاقليمي الفاعل منذ أواسط عام 1990 نتيجة تعرضه لحملة حربية استعمارية لا سابق لها في التأريخ من الحروب والحصار الشامل وعمليات الاستنزاف الفظيعة وصولا الى الغزو والاحتلال عام 2003. وعلى الصعيد العالمي استهدفت إيران من بناء قدرات تسليحية نووية إخضاع العالم وخصوصا الغربي للأمر الواقع بالاعتراف بسيادتها على المنطقة تقاسما مع الكيان الصهيوني، وذلك بمقايضة هذه القدرات بتسيدها وتسلطها على دول الخليج العربي والجزيرة بما فيها العراق إضافة إلى بلاد الشام، و بإلغاء أي قيود على صناعتها التسليحية وتبييض صفحتها القاتمة في ميدان دعم الإرهاب وزعزعة السلم والأمن والاستقرار في الدول المجاورة والانتهاك المنهجي الرسمي لحقوق الإنسان.

لكن وقائع الاتفاقية تقدم غير ما تشتهي سفن النظام الإيراني. فإيران لم تستطع الإفلات من العقوبات المفروضة عليها بشأن دعمها للإرهاب الدولي وانتهاكاتها الجسيمة لحقوق الإنسان. وقد بقيت هذه العقوبات سوية مع العقوبات الخاصة بصناعة صواريخها البالستية. وقد أكد الرئيس الأميركي أوباما يوم 2 / 4 / 2015 : "إن هذه الاتفاقية حتى لو نفذت بالكامل، لن تنهي الخلافات العميقة وانعدام الثقة بين بلدينا. بيننا تاريخ من الصعوبات. ستبقى مخاوفنا فيما يتعلق بسلوك إيران طالما واصلت رعايتها للإرهاب، ودعمها للوكلاء الذين يزعزعون الاستقرار في الشرق الأوسط، وتهديداتها ضد أصدقاء أميركا وحلفائها، مثل إسرائيل. لذلك لا يخطأن أحدً : سوف نظل يقظين في مواجهة تلك الأعمال والوقوف مع حلفائنا." ( 12 )

إذن إيران فقدت بهذه الإتفاقية التي شلت برنامجها النووي أقوى الأسلحة التي كانت تعدها لتنفيذ مخططها التوسعي الإقليمي، وعرضت سيادتها وأمنها لمخاطر جدية بالقبول باتفاقية الإذعان هذه التي تلزمها بإخضاع كل منشآتها العسكرية والمدنية لتفتيش المفتشين الدوليين ومن يقف وراءهم من أجهزة تجسسية غربية.

ثانيا- تضحيات ايران وخسائرها

بدلا من أن يساعد هذا المشروع إيران في تحقيق غاياتها التوسعية الإقليمية تحول الى ثغرة خطيرة استنفذت أموالا طائلة وألحقت خسائر باهظة بالاقتصاد الإيراني الذي يترنح منذ انقلاب خميني وأتباعه عام 1979 تحت آفات البطالة والتضخم والفساد والهيمنة المطلقة لكبار الملالي على منافذ المال والكسب و الانفاق الهائل على عمليات التخريب والتجييش الطائفي والدسائس الاقليمية. فكم خسرت إيران في الجانب المالي البحت ( تكلفة البرنامج نفسه وحجم الخسائر التي تكبدتها جراء العقوبات ) نتيجة اندفاعها في برنامجها النووي التسليحي منذ بداية التسعينيات وصولا الى توقفه في تموز / يوليو عام 2015 بفعل هذه الاتفاقية؟ قدر مسئول أمني اسرائيلي ( في تصريح لوكالة الصحافة الفرنسية في 13 / 11 / 2013 ) تكلفة البرنامج النووي الإيراني بـ ( 170 ) مليار دولار. ( 13 ) في عام 2013 قدر تقرير لمؤسسة كارنغي للسلام الدولي أشرف عليه الباحث الأميركي من أصول إيرانية ساجا بور كلفة البرنامج النووي والعقوبات التي فرضت على إيران بـ ( 100 ) . إلا ان الباحث عاد في نهاية حزيران الماضي / يونيو 2015 فأعلن إن البرنامج وما فرض على إيران بسببه من عقوبات كلفا إيران كلفة فلكية لا تصدق وهي أكثر من 500 مليار دولار. ( 14 ) وقد قدر وزير الخزانة الأميركي جاكوب ليو ( 15 ) خسائر ايران جراء العقوبات التي فرضت عليها على النحو التالي: الناتج المحلي الإجمالي الإيراني انخفض بنسبة تصل الى 20 بالمئة. وخسرت طهران ما يزيد على 160 مليار دولار من عوائد النفط منذ 2012. وفي الأعوام الثلاثة 2012 - 2014 وحدها خسرت إيران نحو 100 مليار دولار. وفي الأشهر المنصرمة من هذا العام وحده خسرت ايران من عوائد النفط 20 مليار دولار. وقد أصابت العقوبات الريال الإيراني منه مقتلا فهبطت قيمته بمعدل يتراوح بين 60 إلى 80 بالمائة. كما ألحقت بصناعة النفط والغاز، المصدر الأكبر للثروة في إيران، أضرارا جسيمة، مما جعلتها تتخلف كثيرا عن مثيلاتها في الدول المنتجة بسبب انقطاع التقنية عنها لعشرات السنين. وبلغت حالة سيئة لدرجة لا تسمح حتى بأن تكرر طهران ما يكفي من البنزين لتغطية احتياجات البلاد. وهي بحاجة الى استثمارات كبيرة لإعادة تأهيلها. ( 16 ) إذن كل هذه الأموال التي أنفقتها ايران على برنامجها النووي والخسائر الفادحة التي تكبدتها ضاعت بهذه الاتفاقية التي ستفكك البرنامج وتحيله الى مشروع محدود النتائج والقدرات . وكان بوسع إيران لو كانت صادقة في إعلاناتها عن السعي لإنتاج الطاقة النووية للأغراض السلمية أن تتفادى معظم هذه الخسائر والتضحيات وتتبع النهج الذي اختارته نحو 47 دولة أقامت برامج نووية سلمية وتمارس عمليات تخصيب اليورانيوم بالحد الأعلى المتاح في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية ( NPT ) وهو معدل 5 بالمائة، ولكانت امتلكت دورة الوقود النووي مثل البرازيل والأرجنتين وكوريا الجنوبية أي لأصبحت من دول ( العتبة ) النووية. بينما تنازلت إيران في هذه الاتفاقية عن حق أساسي تتيحه لها هذه المعاهدة ورضيت بمعدل 3,67 بالمائة .

( يتبع : الجزء الثالث والأخير )
 





السبت ٧ ذو القعــدة ١٤٣٦ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٢ / أب / ٢٠١٥ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. عبد الله الغني نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة