شبكة ذي قار
عـاجـل










يقول المثل الشائع "خذوا أخبارهم من صغارهم".

هذا القول ينطبق على الحالات المضمرة على شيء، والمفصحة عن شيء آخر، وعادة ما يستشف من تسريبات الصغار عما يجري تداوله في الدوائر المغلقة أو الضيقة للكبار. وهذا بقدر ما ينطبق على الواقع الأسروي في إطاره الاجتماعي، فإنه ينطبق على الواقع السياسي في الإطار السلطوي.

وكما لكل قاعدة استثناء، فإن هذه القاعدة التي تنطوي على مضمون هذا المثل الشائع، لها أكثر من استثناء، لكن أوضحها هو الاستثناء الإيراني. إذ رغم السلوك الباطني الذي يوسم التصرف السلطوي الإيراني حيال الكثير من القضايا وممارسة أسلوب التضليل السياسي والإعلامي حيال تبرير السلوك الإيراني حيال كثير من القضايا أيضاً وخاصة قضية فلسطين، إلا أنه يخرج عن باطنيته عندما يتعلق الأمر بالعراق. حيث أن موقف صغار الإيرانيين في هرمية السلطة والإدارة والمؤسسات، هو كما موقف كبارهم. وآخر إفصاحات هذا الموقف ما صدر عن أحد صغار الأجهزة السلطوية كلام الجنرال الإيراني عطا الله صالحي بقوله "ليس من حق العراق منع الإيرانيين من دخول أراضيه لأنه بالأساس أرض أجدادنا نحن، ولنا حق فيه، لذا يجب على العراقيين معرفة هذا الحق وتجنب مجاراة الأمة الإيرانية".

هذا الكلام جاء في الوقت الذي كانت فيه الحشود الإيرانية المقدرة بعشرات لا بل بمئات الألوف تجتاح الحدود العراقية من منافذها مع إيران، دون حسيب أو رقيب، ودون الحصول على أذونات أو سمات دخول، وهذه ليست المرة الأولى الذي يتم فيها اجتياح الحدود دون الأخذ بالاعتبار حتى مجرد الإجراءات الشكلية.

والوقوف على مشهدية هذه الاندفاعة الإيرانية لاجتياح الحدود العراقية بحجة المشاركة في مسيرة الأربعين، يدلل بأن باعثها لم يكن التملص من دفع رسم سمة الدخول والمحددة بـ 40 دولاراً أميركياً، بقدر ما كانت رسالة موجهة من مركز القرار الإيراني الذي وفر كل التسهيلات اللوجستية والعملانية لعملية لاجتياح لمن يعنيه الأمر، بأن النظام الإيراني لا يعترف بهذه الحدود انطلاقاً من اعتباره العراق هو مدى حيوي للدولة الفارسية والتي "تحن" بالعودة إلى مرحلة ما قبل الفتح العربي و دخول بلاد فارس في رحاب الإسلام.

إن الكلام الذي أطلقه عطا الله صالحي، ينطوي على نفس المضمون الذي سبق وأفصح عنه مستشار الرئيس الإيراني على يونسي لأشهر خلت عندما قال، بأن بغداد كانت عاصمة تاريخية للإمبراطورية الفارسية وهي ستعود كذلك.

وهذا الكلام القاطع في وضوحه لم يكن صاعقة في سماء صافية، بل جاء في سياق الاندفاعة الإيرانية بما يشبه التسونامي لاختراق العمق القومي العربي، وحيث لم يتردد عدد من المسؤولين الإيرانيين في المؤسسات الدينية والسياسية والعسكرية والأمنية من القول، بأن إيران باتت تسيطر على أربعة عواصم عربية هي بغداد وصنعاء ودمشق وبيروت.

وعندما يتكرر هذا الكلام من أكثر من مصدر إيراني ومن أكثر من مرجع، فهذا يؤشر بأن هناك استراتيجية ثابتة لدى النظام الإيراني حيال التعامل مع العراق بشكل خاص واعتباره فلكاً في المدار الإيراني ويجب ضبط دورانه بأجهزة التحكم الإيرانية ببعدها السياسي من طهران وبعدها المذهبي من قم. وقد ترجمت هذه الاستراتيجية بسلوك سياسي وأمني وتدخل في الشؤون العراقية بكل تفاصيل الحياة العراقية، من تركيب مؤسسات السلطة السياسية، إلى تركيب الأجهزة الأمنية، إلى إنشاء التشكيلات الميليشياوية الرديفة والتي ربطت بالمركز المقرر بالسلطة التنفيذية تمويلاً وتوجيهاً،وصولاً إلى إطلاق المواقف من التظاهرات الشعبية التي انطلقت وعمت كل نواحي العراق ضد حكم الفساد والمفسدين.

وقبل أن يصف رئيس الأركان الإيراني" حسن فيروز أبادي"المتظاهرين العراقيين في حراكهم الأخير بأنهم يتبعون فئات غير مسلمة وأجندات أجنبية، كان قاسم سليماني قائد ما يسمى بفيلق القدس الإيراني يوجه العمليات العسكرية ضد الاعتصامات الشعبية في الأنبار وبغداد ونينوى وديالا لأكثر من عامين مضيا.

إن مجمل هذه المواقف الإيرانية المرفقة بسلوكيات سياسية وأمنية، تنطلق من خلفية ايرانية للتعامل مع الساحة العراقية وكأنها جزء من الداخل الإيراني، وهذا يفضي إلى اعتبار أن مقدرات العراق الاقتصادية وخاصة ثروته النفطية، هي في خدمة الاقتصاد الإيراني، وأن المنظومة السياسية الأمنية التي تدير شؤون العراق يجب أن تعمل وقف إملاءات النظام الإيراني واستهدافاته الأساسية، وأن الحراك الشعبي الذي تشهده مدن العراق يجب قمعه وضربه كونه يضعف ركائز المنظومة السياسية التي تدير البلاد وفق مقتضيات المصلحة الإيرانية، وأن الحوزات الدينية في العراق يجب أن تكون ملحقة بمرجعية قم، وهذا ما يملي لأن تكون طرق الوصول الى هذه الحوزات مفتوحة أمام الإيرانيين وكأنها موجودة على أرض إيرانية وقس ذلك وهذه هي خلفية المواقف الإيرانية من التظاهرات الشعبية.

هذه الرزمة من المواقف والسلوكيات لم تثر حفيظة الذين يعتبرون أنفسهم بأنهم حكام للعراق، إذ أقسى ما عبروا عنه من مواقف اتجاه الاجتياح الإيراني للحدود العراقية أنه "خطأ إداري".و بهذا الموقف اضيفت مهزلة إلى شريط المهازل لمواقف السلطة التي تدير شؤون العراق حالياً. اذ كيف تعتبر هذه السلطة أن الاجتياح الإيراني هو "مجرد خطأ إداري" وليس انتهاكاً صارخاً للسيادة الوطنية في وقت تعتبر فيه أجهزة رقابتها أن كتابة مقال ناقد قد لسياسة إيران، يندرج في إطار تخريب العلاقات، لا بل أكثر من ذلك أنه يمس سيادة دولة صديقة دعمت العراق ودافعت عنه؟

فهل هذه السلطة تتصف بالحد الأدنى من المواصفات الوطنية، وهي تغض الطرف عن اجتياح مئات الوف الإيرانيين للحدود العراقيين ولا أحد بعرف ماذا كانوا سيعودون أم أنهم سيبقون ويندسون في مفاصل الحياة المجتمعية العراقية؟ وتفرض على أهالي الأنبار شرط تأمين كفيل لهم إذا ما أردوا الدخول إلى بغداد وهي عاصمة بلادهم؟

ان هذا يجسد ذروة العهر السياسي الذي هو نتاج الاحتلال الأميركي الذي مهد الطريق للتغول الإيراني في العراق، ومعه أصبح الإيراني يقدم نفسه وكأنه من"أهل البيت العراقي"، فيما العراقي أصبح غريباً في وطنه.

إن هذا ما كان ليحصل لولا احتلال العراق وإسقاط مقومات دولته الوطنية، وهذا الإسقاط للدولة الوطنية الذي جعل العراق في حالة انكشاف شاملة، لم يؤد إلى توفير بيئة لبروز بعض الظواهر ذات التركيب والخلفية الدينية والتي تمارس أعمال الترهيب السياسي والديني وحسب، بل كان العامل الأساس الذي وفر أيضاً كل التسهيلات لهذا التغول الإيراني والذي بممارسته ومواقفه مع كل التشكيلات التي ترتبط به وتنفذ الأجندة الإيرانية انما تمارس ارهاباً لا يقل خطراً على الوحدة الوطنية العراقية ووحدة نسيجها الاجتماعي عن ممارسات تلك التي تندرج تحت مسميات الارهاب ومثيلاتها. وإذا كانت أميركا بكبار مسؤوليها وصغارهم وآخرهم مسؤول المخابرات الأميركية العسكرية السابق خلال الحرب على العراق "ما يكل فلين" قد اعتبر أن أميركا قد ارتكبت خطأ استراتيجياً عندما أقدمت على غزو العراق وأسقطت نظامه، لأنه لولا ذلك لما كانت قد ظهرت "داعش"، فالصحيح أيضاً، بأنه لولا غزو العراق واحتلاله وإسقاط نظامه الوطني وتدمير بنية دولته الوطنية لما كان حصل هذا الفراغ في المكون الوطني العراقي ولما كان حصل هذا التغول الإيراني.

هذا الاعتراف الأميركي بالخطأ كان سبقه إقرار بكذب التقارير التي تم الاستناد إليها لشن الحرب وآخره اعتراف طوني بلير وكان ذلك سبباً بتوفير مناخات بظهور داعش، لكن هذا الاعتراف يبقى ناقصاً إذا لم يقرن باعتراف صريح، بأن غزو العراق واحتلاله وإسقاط نظامه هو الذي مكن النظام الإيراني من تغوله في العراق. وإذا لم يقل هذا الكلام، فإن أميركا ومن دار في فلكها لا يريدون الاعتراف بأن الدور الإيراني المستفرس في العراق، هو ثمن دفع لحكام طهران لتسهيل الاحتلال وإذا كان الأميركيون وهم الكبار في معادلة غزو العراق واحتلاله وإيصال الأمور فيه إلى ما هي عليه الآن لا يفصحون عن هذا الموقف، فإن النظام الإيراني وهو الأصغر بهذه المعادلة قد أفصح عنه صراحة وقال أنه لولا مساعدة إيران لما تمكنت أميركا من احتلال العراق، وبهذا يعود المثل الذي يقول "خذوا أخبارهم من صغارهم" لينطبق على حقيقة العلاقة الأميركية – الإيرانية من العدوان العراق وما ترتب على ذلك من نتائج.





السبت ٢٣ صفر ١٤٣٧ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٥ / كانون الاول / ٢٠١٥ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب المحامي حسن بيان نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة