شبكة ذي قار
عـاجـل










عندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يثرب وادع اليهود الذين كانوا من بين سكانها، وعاهدهم وأمنهم على أموالهم ومواليهم، ومنحهم حرية الاعتقاد؛ فمن تبع المسلمين منهم فله ما للمسلمين من الحقوق وعليه ما عليهم من الواجبات.

واشترط عليهم أن يكونوا مع المسلمين على من هاجم المدينة أو حارب أهلها، على أن يتحملوا نفقتهم ما داموا محاربين، كما يتحمل المسلمون الإنفاق على أنفسهم كذلك.

وذهب حيي بن أخطب وسلاّم بن أبي الحقيق ونفر من زعماء بنى النضير ووجوههم إلى مكة؛ لتحريض قريش على مهاجمة المدينة، وقالوا لهم: سنكون معكم عليه حتى نستأصله، وكأنما قريش تشككوا في نية اليهود فترددوا في ممالأتهم على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عربي مثلهم، أو كأنما تشككوا في أمر دينهم فأرادوا أن يطمئنوا إلى حقيقة أمره، ويوازنوا بينه وبين الإسلام الذي يدعو إلى الوحدانية ومكارم الأخلاق، كما أرادوا أن يتبينوا موقفهم منه صلى الله عليه وسلم، وهل هم على حق في حربهم له أم على باطل؟ فقالوا:"يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟ فدفعهم حب الانتقام والرغبة في إغراء قريش بحربه إلى تمويه الحقائق وتشويهها؛ فقالوا: بل دينكم خير من دينه؛ فأنتم أولى بالحق منه".

وهكذا شهد اليهود هذه الشهادة الفاجرة؛ حيث شهدوا بأن الشرك خير من التوحيد، وأنكروا ما جاءت به التوراة من وحدانية الله والنهي عن الإثم والفواحش؛ فأنزل الله سبحانه وتعالى فيهم قوله جل شأنه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} . فلما قال اليهود ذلك لقريش سرّهم وحفوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستعدوا لذلك.

تم ذهب هؤلاء النفر إلى غطفان ودعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبروه أن قريشا قد بايعوهم على ذلك، وتعهدوا لزعماء غطفان بأن يعطوهم ثمار خيبر من النخيل سنة إذا تم لهم النصر على المسلمين؛ فاستجابت غطفان بجميع بطونها لهم، ثم أخذوا يحرضون كل من له ثأر عند المسلمين على حربهم حتى بلغ جيش الحلفاء عشرة آلاف مقاتل، وتولى القيادة العامة أبو سفيان بن حرب، وسار الجيش إلى المدينة في شوال لسنة خمس من الهجرة.

ولما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعزم قريش ومن معهم على مهاجمة المدينة أخذ برأي سلمان الفارسي، وأمر بحفر خندق في شمال المدينة، وكانت هي الجهة المكشوفة التي يستطيع العدو أن يدخل منها.

وحفر الخندق وراء جبل سلع، وعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحفر بنفسه، وتم الحفر بغاية السرعة، وكانت جهات المدينة الأخرى حصينة منيعة؛ حيث كانت ظهور بيوتها من ناحية الجنوب متلاصقة عالية كالسور المنيع، وكانت حرة الوبرة ناحية الغرب وحرة داقم ناحية الشرق كالحصن الطبيعي، وكانت آكام بني قريظة في الجنوب الشرقي من المدينة؛ ولا يمكن دخول العدو منها إلا برضى بني قريظة؛ وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد أن لا يمالئوا عليه أحدا ولا يناصروا عليه عدوا.

ووصل الحلفاء إلى المدينة وضربوا عليها الحصار، ووقف الفريقان أما الخندق وجها لوجه: المسلمون على قلة عددهم وضعف عدتهم، والمشركون على كثرتهم وتمام عدتهم، وطال الحصار ولم ينل الأحزاب منالا من المسلمين، وخاف حيي بن أخطب أن تسأم قريش وغطفان طول المقام فيرجعون إلى ديارهم وبذلك تفلت الفرصة من يده، ورأى أن الأحزاب لن يتمكنوا من دخول المدينة إلا من ناحية بني قريظة وكان هؤلاء لا يزالون على عهدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلابد أن يغريهم حيى بنقض العهد حتى يسهلوا للأحزاب مهمة اقتحام المدينة؛ فذهب إلى زعيمهم كعب بن أسد فأغلق كعب دونه باب حصنه؛ فأخذ حيى يحتال عليه حتى فتح له فدخل عليه وقال: "يا كعب إنما جئتك بعز الدهر: جئتك بقريش وسادتها وغطفان وقادتها قد تعاهدوا على أن يستأصلوا محمدا ومن معه"، فقال كعب "جئتني - والله - بذل الدهر وبجهام لا غيث فيه، ويحك يا حيي دعني فلست بفاعل ما تدعوني إليه؛ فإني لم أر من محمد إلا وفاءا وصدقا"، فلم يزل حيى بكعب حتى اتفق معه على خيانة المسلمين والانضمام إلى الأحزاب.

وبلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلى بني قريظة سعد بن معاذ سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج في نفر من أصحابه وقال لهم: "انطلقوا إلى بني قريظة؛ فإن كان ما قيل لنا حقا فألحنوا لنا لحنا (1) ولا تفتوا في أعضاء الناس، وإن كان كذبا فاجهروا به للناس".

فانطلق الوفد إلى محلتهم، فوجدهم قد تغيروا عما كانوا عليه ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: "لا عهد له عندنا"؛ فجعل سعد بن معاذ يدعوهم إلى الوفاء ويحذرهم عاقبة الخيانة والغدر، وكان مما قاله لهم: "أخشى عليكم يوم بني النضير وأمرّ منه"، فردوا عليه ردا قبيحا، وشاتموه وشاتمهم، فقال له سعد بن عبادة: "دع عنك مشاتمتهم فالذي بيننا وبينهم أكثر من ذلك".

ثم رجع الوفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي جمع من المسلمين فأخبروا - بطريق الكناية - أن ما بلغه من غدر بني قريظة صحيح.. وعلى الرغم من تكتم رسول الله صلى الله عليه وسلم للخبر فإنه وصل إلى المسلمين؛ فاشتد البلاء وعظم الخوف وزاد الكرب وكانت حالهم كما وصفها القرآن { إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً}.

فلما رأى رسول الله ما بالناس من البلاء والكرب جعل يبشرهم ويقول لهم: "والذي نفسي بيده ليفرجن الله عنكم ما ترون من الشدة، وإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمنا، وأن يدفع الله إلي مفاتيح الكعبة، وليهلكن كسرى وقيصر، ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله ".

وقد رجع حيى بن أخطب إلى المشركين وأخبرهم بنجاحه في حمل بني قريظة على الغدر بالمسلمين؛ فقويت روحهم المعنوية.

وكان بنو قريظة قد اتفقوا مع حيى بن أخطب أن يعطيهم مهلة عشرة أيام يستعدون فيها على أن تشتد كتائب الأحزاب في مناوشة المسلمين خلال هذه الفترة حتى يشغلوهم عن بني قريظة، وقد اشتد المشركون في مناوشتهم للمسلمين حتى أجهدوهم.

وتهيأ بنو قريظة للإغارة على المدينة ليلا؛ فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فبعث سلمة بن أسلم في مائتي رجل، وزيد بن حارثة في ثلاثمائة رجل يحرسون المدينة من جهة بني قريظة، وكان الخوف على من بالمدينة من النساء والأطفال من بني قريظة أشد من الخوف عليها من قريش وغطفان.

وظل الأمر على ذلك بضع عشرة ليلة؛ فتفاوض الني صلى الله عليه وسلم مع زعماء غطفان في أن ينصرفوا عن المدينة على أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة، ولم يبت في الأمر حتى يأخذ رأي الأنصار؛ فلما استشارهم في ذلك قالوا: يا رسول الله! أمر تحبه فنصنعه أم شيئا أمرك الله به لابد من العمل به أم شيئا تصنعه لنا؟ قال: "بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم (2) من كل جانب؛ فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما"، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله! قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟ والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأنت وذاك"، فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتابة ثم قال: ليجهدوا علينا.

وقد جعل الله سبحانه وتعالى لرسوله وأصحابه من هذه الشدة فرجا ومخرجا؛ فساق إليهم نعيم بن مسعود الأشجعي من غطفان فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي؛ فمرني بما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنت فينا رجل واحد؛ فخذل عنا إن استطعت؛ فإن الحرب خدعة".

فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة - وكان لهم نديما في الجاهلية - فقال: يا بني قريظة قد عرفتم ودّي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت! لست عندنا بمتهم، فقال: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم؛ البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون أن تحولوا منه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره؛ فليسوا كأنتم فإن رأوا نهزة (3) أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم؛ فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا محمدا حتى تناجزوه، فقالوا له: لقد أشرت بالرأي.

ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: لقد عرفتم ودي لكم وفراقي محمداً، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت علي حقا أن أبلغكموه نصحا لكم؛ فاكتموا عني، فقالوا: نفعل، قال: أتعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه: إنا ندمنا على ما فعلنا؛ فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين: من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم؛ فأرسل إليهم أن نعم؛ فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا.

ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان! إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي، ولا أراكم تتهمونني! قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم، قال: فاكتموا عني، قالوا: نفعل، فما أمرك؟ ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم.

فلما رجعت الرسل إلى قريش وغطفان بما قال بنو قريظة قالوا: والله إن الذي حدثكم به نعيم بن مسعود لحق، وأرسلوا إلى بني قريظة: إنا والله لا ندفع لكم رجلا واحدا من رجالنا؛ فان كنتم تريدون القتال فاخرجوا قاتلوا، فقال بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق؛ ما يريد القوم إلا أن تقاتلوا فإذا رأوا فرصة انتهزوها وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل في بلدكم، فأرسلوا إلى قريش وغطغان: إنا والله لا نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا؛ فأبوا عليهم وخذل الله بينهم، وبعث عليهم الريح في ليالي شاتية باردة شديدة البرد؛ فجعلت تكفأ قدورهم وتقتلع خيامهم؛ فلم يروا بدا من الرحيل عن المدينة ورحلوا عنها.

وهكذا فعلت حيلة نعيم بن مسعود ما لم تفعله الجحافل الكبيرة؛ فشككت كلا من بني قريظة والأحزاب في نوايا بعضهم البعض وحالت بينهم وبين الاتفاق على خطة موحدة يقتحمون بها المدينة ويقضون بها قضاءا مبرما على الدولة الإسلامية الناشئة.

إنها رحمة من الله سبحانه وتعالى أن ساق للمسلمين - في أحرج الظروف - نعيم بن مسعود، وإلهام منه جلّ شأنه لنعيم حيث وفقه إلى حيلة فرقت كلمة اليهود والمشركين وأوهنت عزيمتهم، ونجّت المسلمين من شرهم، {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً، وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً، وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً}.

لم يكن هناك أي سبب يدفع بني قريظة إلى خيانة المسلمين والغدر بهم إلا الحقد الكامن في نفوس اليهود؛ فقد حافظ المسلمون على عهدهم لبني قريظة ولم يقدموا إليهم أي إساءة ولم تبدر منهم أي بادرة تدل على عدم الوفاء لهم؛ يشهد لذلك رد كعب بن أسد سيدهم على حيى بن أخطب حينما أغراه بنقض العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول له: ويحك يا حيى دعني! فلست بفاعل ما تدعوني إليه؛ فإني لم أر من محمد إلا وفاءا وصدقا.

فلو كان المسلمون قد حادوا قيد أنملة عن الوفاء لبني قريظة لكان لهم بعض العار أن يغدروا بهم وينحازوا إلى عدوهم، أما وقد وفوا لهم أكمل الوفاء وحافظوا على عهد أتم المحافظة فما كان ينبغي لهم أن يغدروا بهم في أحرج الأوقات وأشد الأزمات غدرا كان فيه فناؤهم والقضاء على دعوتهم وإبادة دولتهم، مع أن نصوص العهد كانت تلزمهم بالدفاع عن المدينة مع المسلمين جنبا إلى جنب؛ لحمايتها من المغيرين وعدوان المعتدين، لا أن يتعاونوا مع الأعداء على اقتحامها ويساعدوهم على الفتك بأهلها.

إن موقف بني قريظة من المسلمين كان موقف نقض فاجر للعهد وغدر دنيء بمن وفوا لهم وخيانة آثمة لمن إئتمنوهم؛ حتى لقد استنكره بعض عقلاءهم في حوار لهم مع حيى بن أخطب حيث قالوا: إذا لم تنصروا محمدا فدعوه وعدوه، لكن الأغلبية الغالبة منهم استجابت لوسوسته وطعنت المسلمين من خلفهم طعنة كادت أن تؤدي بكيانهم وتمحوا دعوتهم.

فما الذي كان ينبغي أن يقابل به الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الغدر وهذه الخيانة من جانب بني قريظة، إنه لم يكن من المعقول أن يترك هؤلاء يعيثون في المدينة فسادا أكثر مما عاثوا، ومن يُدري النبي عليه الصلاة والسلام أنهم لن يحاولوا إثارة الأعداء على المسلمين مرة أخرى، ويدعوهم إلى مهاجمة المدينة في غير فصل الشتاء الذي كان له بعض الأثر في تقصير أمد حصارها وإحباط الخطة التي دبروها لاقتحامها؟! كان لابد أن يحاسب النبي صلى الله عليه وسلم بني قريظة على ما اقترفوه من جرم وارتكبوه من إثم؛ فلم تمض ساعات على جلاء الأحزاب عن المدينة حتى أمر أصحابه بالتوجه إلى حصونهم في الجنوب الشرقي المدينة، ودفع اللواء إلى علي بن أبي طالب وأمره أن يتقدم بين يديه إلى بني قريظة في نفر من المهاجرين والأنصار؛ فأساء اليهود استقبالهم وأخذوا يشتمون رسول الله وأزواجه فلم يردّ عليهم المسلمون بأكثر من قولهم: السيف بيننا وبينكم.

ثم ركب صلى الله عليه وسلم - في نفر من أصحابه - إلى بنى قريظة؛ فأدركوا من كان هناك من المسلمين، فلما رأى اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم تحصنوا بحصونهم؛ فحاصرهم الرسول والمسلمون خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب؛ فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه أن يخرجوا بنسائهم وأبنائهم وما حملت الإبل من أموالهم كما خرجت بنو النضير؛ فأبى عليهم ذلك فأرسلوا إليه أن يخرجوا بنسائهم وأبنائهم بلا مال ولا سلاح فأبى صلى الله عليه وسلم إلاّ أن ينزلوا على حكمه.

وأشار عليهم زعيمهم كعب بن أسد أن يدخلوا في الإسلام، وذكرهم بما عندهم من العلم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فلم يقبلوا مشورته فأشار عليهم أن يخرجوا ليلة السبت والمسلمون آمنون فيبيتوهم؛ فقالوا: لا نحل السبت، ولم يتفقوا على رأي.

ولما اشتد الحصار عليهم أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أن أبعث أبا لبابة لنستشيره في أمرنا، فأرسله إليهم.

وأبو لبابة هو رفاعة بن عبد المنذر الأوسي الأنصاري، وكان بنو قريظة حلفاء الأوس.

فلما رأوه قام إليه الرجال وأجهش له النساء والأطفال بالبكاء؛ فرقّ لهم وقالوا له: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقة؛ يشير بذلك إلى أنهم إن نزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم سيذبحون، قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي عن مكانها حتى عرفت أني قد خنت الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، ولم يأت رسول الله وذهب إلى المسجد وربط نفسه إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله على ما صنعت، وعاهد الله ألا يدخل محلة بنى قريظة أبدا ولا يرى في بلد خان الله ورسوله فيه أبدا.





الاربعاء ٤ محرم ١٤٣٨ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٥ / تشرين الاول / ٢٠١٦ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الثائر العربي عبد الله الحيدري نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة