شبكة ذي قار
عـاجـل










( مقالنا المنشور بمجلّة ألق البعث في عددها الأوّل الصّادر يوم الإثنين 12 - 06 - 2017 )

شكّل ظهور حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ منذ فجر التّأسيس وما قبل ذلك أي خلال حملات التّبشير الأولى، حدثا فارقا في تاريخ الأمّة العربيّة الحديث. ويعود ذلك لما قدّمه هذا الحزب الوليد حينها من رؤى وحلول لأغلب مشاكل العرب بما يتوافق مع طبيعتهم ومميّزاتهم وهويّتهم بالدّرجة الأولى، حيث عرض البعث قراءته للواقع العربيّ وأشّر على مكامن الخلل والوهن ثمّ مرّ لاستشراف الحلول العمليّة والعلميّة برويّة وهدوء ومدفوعا في ذلك بإيمان راسخ صلب وثقة متينة بقدرات العرب على تجاوز الآفات والمحن والأزمات المتفاقمة التي يرزحون تحتها رغم الفوارق والاختلال الرّهيب في موازين القوى وغيرها خصوصا فيما يتعلّق بكسب الصّراع ضدّ القوى المستعمرة.

تزامن ظهور البعث واقترن بفترة حسّاسة ومصيريّة من تاريخ الأمّة العربيّة فلقد كان أغلب أقطارها يعيش على وقع الاحتلال من جهة وحروب التّحرير الوطنيّ من جهة ثانية كما عرفت جماهير الأمّة معاناتها لأوضاع متردّية شتّى شملت الاقتصاد والخدمات والتّعليم والصّحّة، ليبقى أعلى المخاطر وأمكر المؤامرات والهزّات العنيفة التي ضربت قلب الأمّة هو اغتصاب فلسطين من قبل الصّهيونيّة العالميّة والدّوائر الامبرياليّة والاستعماريّة المتحالفة معها في أواخر أربعينات القرن العشرين وهو الحدث الذي عبّر بوضوح عن أهداف الواقفين خلف تلك الجريمة من صهيونيّة واستعمار وقد اتّفقا على فصل شطري الوطن العربيّ وتأبيد تقسيمه ومنع أيّ جهد في سبيل توحيده وبالتّالي ضرب تطلّعات العرب للوحدة والحرّية والاشتراكيّة ووأدها في المهد. وكان طبيعيّا في تلك الفترة بتقلّباتها وتسارع أحداثها أن تشهد السّاحة العربيّة اطّراد الحراك السّياسيّ والثّقافيّ وأن تتعدّد محاملهما ويكثر الفاعلون فيها، وهو ما يفسّر نشأة عدد كبير من الأحزاب منها الإصلاحيّ ومنها الثّوريّ ومنها المتمسّك بالجذب للخلف ومنها المتحالف إمّا مع الجهات الاستعماريّة أو تلك الطّبقات الحاكمة، ليبلغ التّنافس بين تلك الأحزاب سواء الحديثة أم الأقدم عهدا مداه ليصل حدّ الصّراع والتّصادم في كثير من الأحيان.

وسط هذا اليمّ المتلاطم من الأحزاب والتّيّارات والأطراف والمشارب جاء بروز حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ مؤذنا بانطلاقة عهد عربيّ جديد ينهض للثّورة والانقلاب على مساوئ الواقع ولوثته معوّلا في ذلك على الجيل العربيّ الجديد الذي فصّل مؤسّسو البعث منذ البداية مواصفاته كافّة وبيّنوا معالمه ووضّحوا طبائعه وشرحوا ما يتوجّب أن يتوفّر عليه من خصال وكفاءات نضاليّة نوعيّة مع ضرورة العمل على صقلها ومزيد تطويرها وتهيئتها تهيئة لا اعوجاج فيها ليتلاءم كلّ ذلك فيما بعد مع الدّور الانقلابيّ الانبعاثيّ الشّامل والواسع الموكول له والمناط بعهدة هذا الجيل الموعود وهو الذي من شأنه أن يلبّي انتظارات الأمّة العربيّة وأبنائها الممنوعين من أبسط حقوقهم والمحرومين من إقامة دولتهم القوميّة وبسط سيادتهم فيها على ثرواتهم وتقرير مصائرهم وتسطير أحلامهم بعيدا عن جميع أشكال الوصاية أو الفرض أو الاستغلال والإملاء، شأنهم شأن كلّ الشّعوب والأمم العريقة الحيّة.

تميّز البعث منذ ظهوره الأوّل وتمايز تمايزا بيّنا لا لبس فيه عن سائر الأحزاب والحركات السّياسيّة في الوطن العربيّ، كما لم يقتصر تمايزه في الدّاخل فحسب، بل إنّ مجالات ذلك كانت أبعد وأعمق. فلم يكن البعث وهو الحزب القوميّ العربيّ استنساخا للتّجارب القوميّة الأخرى والتي ظهرت في أوروبّا من قبل، ولم يتأثّر بها ذلك التّأثّر السّطحيّ رغم محاولات التّشكيك والاتّهامات الصّادرة من قبل مناوئي البعث ومنتقديه، فلقد خرج البعث عن دائرة الاتّهام الموسومة بها الحركة القوميّة عموما وخاصّة تلك الأوروبيّة والتي بلغت مبالغ كبيرة من التّطرّف والعنصريّة فيما بعد كالنّازيّة والفاشيّة، واستطاع حزب البعث أن ينحت معالم تجربة قوميّة على المستوى النّظريّ أوّلا ليلتحق بها التّطبيقيّ فيما بعد ودون تفاوت أو اختلال زمنيّين ويؤسّس لقوميّة ذات أبعاد إنسانيّة كونيّة وهو ما لم تسبقه إليه أيّ فلسفة قوميّة من قبل، بل لم تقدر أيّ حركة قوميّة أخرى أن تبحث لها عن مغادرة الحميّة العرقيّة والنّزعة الشّوفينيّة دون أن تخشى أن يهدّد ذلك كينونتها وجوهرها، واعتبر البعث بل وحسم الأمر مبكّرا أنّ القوميّة التي يتبنّاها هي قوميّة عربيّة المنطلق إنسانيّة الغاية والأهداف لا تتحرّج مطلقا من تعكّزها على الحبّ والإقبال الطّوعيّ المسؤول والاستعداد للمساعدة اللاّمشروطة في معاودة إثراء الجهد الإنسانيّ والفعل الكونيّ بعد أن كان للعرب قدر كبير ودور متقدّم فيه، وجاءت ههنا تأكيدات البعث على أنّ " القوميّة حبّ قبل كلّ شيء " وأنّ " القوميّة قدر محبّب ".

إنّه لا غرو في القول إنّ هذا التّشديد على الحبّ في تعريفات البعث وتصوّراته للقوميّة التي يتبنّاها إنّما هو من جوهر إنسانيّة مشروعه وغاياته، إذ ما من أدلّ على إنسانيّة الإنسان سواء كان عربيّا أم ألمانيّا أم صينيّا إلاّ التصاقه بمبدأ الحبّ في تعاملاته وفي التّأسيس لعلاقاته مع الذّات والآخر في الوقت نفسه ، إذ لا يعقل أن تنطلق القوميّة العربيّة التي أرسى معالمها حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ من نبع ومعين جماليّين وحالمين مسالمين لو كانت هذه القوميّة استمرارا في الانغلاق والتّقوقع والجمود ومن ثمّة الشّوفينيّة.

وإنّ دراسة تاريخ الظّاهرة القوميّة على جميع أصعدتها، ستمكنّنا من ملامسة تمايز القوميّة العربيّة كما سنّ أصولها حزب البعث، عن غيرها من الحركات القوميّة الأخرى، فمن المعلوم مثلا أنّ حزب البعث يقوم على متلازمة الفكر والتّنظيم، إلاّ أنّه ورغم صرامته التّنظيميّة الخارقة وما يميّزها من محوريّة وعناية فائقة، فإنّ البعث جعل من التّنظيم أداة طليعيّة ثوريّة انقلابيّة هدفها الأساسيّ إعداد المناضل إعدادا يؤهّله للرّهانات والتّحدّيات المصيريّة بعد أن يكسبه بدوره الطّلائعيّة والثّوريّة الانقلابيّة، كما احتفى التّنظيم البعثيّ بالعنصر البشريّ أي بالمناضل البعثيّ واعتبره جوهر العمليّة النّضاليّة وسنامها، على عكس التّنظيم القوميّ النّازيّ مثلا الذي كانت الصّورة عكسيّة ومخالفة تماما وذلك بأن جعل التّنظيم الثّوريّ هو الغاية وما المنتظم بداخله إلاّ مجرّد أداة ووسيلة ما حوّل الفرد إلى ما يشبه الماكينة بعد تجريده من مقوّمات عدّة تنتفي بدونها الإنسانيّة، كما تميّز عن سائر الحركات القوميّة العربيّة بميزة التّأصيل النظرّي للفكرة القوميّة وخلق التّنظيم القياديّ القوميّ الذي يشكّل المرجعيّة الفكريّة والتّنظيميّة والسّياسيّة والأخلاقيّة والقانونيّة لنظريّة الثّورة العربيّة الكبرى التي راد ولا يزال يقود ركبها، وهو ما عصمه مثلا في أيّام النّاس هذا من نفس مصير الحركات والأحزاب التي انطلقت قوميّة عربيّة وانتهت منخرطة متدافعة رافعة للواء عدد من أعداء العرب والعروبة ونعني بذلك إيران الفارسيّة الصّفويّة تحديدا.

وترافق هذا التّمايز الجوهريّ للبعث داخل المنظومة – المظلّة القوميّة ذاتها، مع تمايز البعث عن غيره من بقيّة الأحزاب في الوطن العربيّ تمايزا سياسيّا وفكريّا اتّسم ( هذا التّمايز ) بالجوهريّة والشّموليّة.

فكما هو معروف وخلال فترة ظهور البعث، شكّلت الأحزاب الدّينيّة من جهة والأحزاب الشّيوعيّة من جهة أخرى أكبر الكتل التي اصطفّت حولها الجماهير الاصطفاف الأهمّ لما اتّسمت به الأحزاب الإصلاحيّة والانتخابيّة من تعال وعدم مقدرتها ولا حتّى رغبتها أحيانا في المداومة على العمل الحزبيّ والنّشاط السّياسيّ، ولقد مثّل البعث منافسا جدّيا لكلا المعسكرين الشّيوعيّ والدّينيّ في الوطن العربيّ، بل إنّ تلك الأحزاب استشعرت مبكّرا ما يحمله انبلاج شمس البعث من خطر يهدّد وجودها رغم حرص البعث على طمأنة أغلب الفاعلين السّياسيّين ومساعيه للانفتاح على كلّ القوى التّقدّميّة - الوطنيّة والقوميّة خصوصا – شريطة تغليب المصلحة القوميّة العربيّة العليا، وشدّد مؤسّسه على أنّ المسألة والمصلحة القوميّة أشدّ تعقيدا من أن يدّعيّ حزب واحد أو طرف واحد امتلاك الحلّ الكامل لها، فكيف تمايز البعث على المعسكرين؟:

11- الأحزاب الدّينيّة: لطالما سيطرت الأحزاب والحركات المتستّرة بالدّين على الأوضاع السّياسيّة في الوطن العربيّ وذلك لأنّها نجحت في ابتزاز الجماهير وخداعها عبر اتّخاذها للدّين مطيّة للعبور لكسب تعاطفهم وتأييدهم، وسعت لتأبيد القراءات الدّينيّة التي عفا عليها الزّمن وحاربت أيّ نزوع للتّجديد والبحث وكلّ ما من شأنه أن يهدي النّاس لحقيقة الدّين مباشرة وبلا وصاية أو تدجيل، لما في ذلك من تهديد جدّي لمصالحها.

ولقد كان موقف البعث في الغرض واضحا بل وأفاض فيه وأفرد المسألة الدّينيّة بالتّشريح والتّفصيل، بل وتعتبر مقالة " في ذكرى الرّسول العربيّ " إحدى أهمّ لبنات البعث الفكريّة التي يعرض البعث الحلّ بمنتهى البساطة لهذه الأمّة بأن كلّ فرد من أبنائها يسعى ويكابد من أجل أن يكون مقتديا بالرّسول العربيّ محمّد وجاءت في المقالة العبارة الشّهيرة " لقد كان محمّد كلّ العرب فليكن كلّ العرب اليوم محمّدا " وتدرّج البعث في التّأكيد على أنّ الأمّة العربيّة هي مهبط الرّسالات السّماويّة كلّها وأنّ الدّين مقوّم ثوريّ وحضاريّ أساسيّ من مقوّمات التّشكيل النّفسيّ والجمعيّ للعرب وأمّتهم، ولكنّه في المقابل فضح سماسرة الدّين والمتاجرين به ورفض رفضا قطعيّا أيّ مسعى لمخادعة الجماهير باسم الدّين وتركها فريسة للضّيم والاستغلال والقهر والاضطهاد لتتفيّأ مجاميع الاتّجار بالدّين بكلّ النّعيم والتٍّرف والعوائد والمغانم السّياسيّة والمادّية وغيرها.

وفي إطار تصدّيه للتّستّر بالدّين من قبل الأحزاب الدّينيّة، عمل البعث على إيلاء التّراث المنزلة المهمّة التي يستحقّها للمراكمة والبناء على العبر والدّروس المراحل الوضّاءة فيه وترك ما لم يعد صالحا لواقع الأمّة، لما يتيحه الاحتفاء بذلك التّراث من تهيئة الظّروف والأرضيّة لإحياء الاجتهاد والإبداع، كما تفطّن منذ فجر التّأسيس الأوّل لما تشكّله هذه الأغطية الدّينيّة من مخاطر كبرى لا يتوقّف أثرها عند خداع النّاس والكذب عليهم باسم الدّين، بل لما تشكّله من احتاطيّ ملغوم بيد أعداء الأمّة كلّما عمدوا لخلط الأوراق وتأزيم الوضع العربيّ ناهيك وأنّ هذه الأحزاب الدّينيّة هي البيئة المثلى لتفجير ألغام الطّائفيّة وما لها من تداعيات بالغة التّعقيد والخطورة في أمّة كالأمّة العربيّة تتميّز بالثّراء الدّينيّ وغير ذلك.

22- الأحزاب الشّيوعيّة: لقد تمايز البعث عن هذه الأحزاب بخصلتين اثنتين، أوّلها أنّه نبع من أديم الأرض العربيّة وجاء تعبيرا عن عذابات جماهيرها إذ ولد من رحم هذه الأرض، وبالتّالي لم يجئ من باب الإسقاط أو استنساخ تجارب لها خصوصيّتها وفرض تطبيقها كما هي في البيئة العربيّة، فتوقّى البعث إذن كلّ ما من شأنه أن يحدث فجوة بينه وبين الجماهير وهي الحاضنة الأساسيّة لأيّ عمل أو حزب سياسيّ من جهة، كما توقّى الطّوباويّة التي ميّزت الفكر الشّيوعيّ، أمّا الخصلة الثّانية فهي عدم التّصادم مع المعتقد للجماهير العربيّة بمراعاة ما أشرنا له سابقا حيث حسم البعث أمره في مسألة الدّين ومنزلتها في الأمّة العربيّة، وما مكّنه ذلك من رسم معالم الاشتراكيّة العربيّة بعيدا عن مظاهر التّغريب من جهة وكلّ ما له علاقة من تنفير النّاس من البرامج والخطاب والمهامّ، لتبقى أعلى مظاهر التّفرّد والتّفوّق على هذه الأحزاب ورؤاها وفلسفاتها، هو ذلك الاحتفاء المتأنّي والعميق الذي أولاه البعث للجانب الرّوحي مفنّدا الإدّعاءات القائمة على أنّ المادّة هي أصل الكون، وهو ما ثبت فيما بعد وجعل من الماركسيّة مثلا تعيش شبه عزلة حتّى في أكبر البيئات التي نمت فيها وترعرعت.

فكانت أبرز ممّيزات البعث عن كلا العائلتين السّياسيّتين سواء الدّينيّة أو الشّيوعيّة، هو رؤيته مثلا المخالفة للقول بضرورة فصل الدّين عن الدّولة وعدّ ذلك أمرا غير ممكن ولا مشروع في الوطن العربيّ، ودعا لفصل الدّين عن السّياسة، وتمسّك في المقابل برفض الدّولة الدّينيّة رفضا قاطعا.

وفي الواقع، لا يمكن حصر كلّ ما ميّز البعث في المسألة الدّينيّة أو المسألة الماديّة أو غير ذلك من المسائل الفكريّة وما أكثرها، لأنّ مضمون المشروع الثّوريّ القوميّ التّحرّريّ الإنسانيّ الذي قام عليه منهج البعث هو الذي طبع أداءه فيما بعد والرّسالات التي نهض لها كلّها مستويات لم يسبقه إليها غيره من الحركات والأحزاب السّياسيّة بل إنّ حتّى من حاولوا منافسته فيها لم تصمد طويلا. ولقد بيّنت المناهج الأدوات التّحليليّة التي اعتمدها البعث وتعكّز عليها دوما، مدى تميّزه ومدى إلمامه بالواقع العربيّ وتحّدياته ومشاكله وملابساته ورهاناته.

لقد طرح البعث على نفسه الاستمرار على نهج تحرير الأرض العربيّة من الاستعمار بأشكاله المختلفة وكذلك تحرير الإنسان العربيّ من كافّة أشكال الاستغلال والاضطهاد والتّفرقة، ولم يفرّق بين قٌطر وآخر ولم يفاضل بين استعمار وآخر ولا عدوان وآخر، وظلّت المصلحة القوميّة العربيّة الاستراتيجيّة العليا بوصلته حزبا وقيادة ومناضلين، ولم تحل المشاقّ والمكابدة بينه وبين الثّبات على هذا النّهج منذ يوم التّأسيس لليوم.

بقي الالتزام بخدمة الجماهير والذّود عن حرمة الدّيار والثّغور أعلى ما يفرضه البعث ومناضلوه ومفكّروه ومقاتلوه الموزّعون في سوح المقاومة على أنفسهم، ولم تزد التّضحيات والإكراهات وغيرها حزب البعث إلاّ صمودا وشموخا حتّى غدت سيول المؤامرات والدّسائس ضدّه أمصالا وتلاقيح تعيد للجسم البعثيّ عافيته باستمرار.

من البداهة بمكان القول إنّ ما تعرّض له البعث من اعتداءات مفتوحة ومطاردات وملاحقات متواصلة فاقت كلّ حدود التّصوّر البشريّ، وأنّه ورغم تحوّل هوامش فعل البعث وتواجده إلى ما يشبه كثبان جمر حارقة بفعل ما رصدته له الدّوائر الامبرياليّة والاستعمارّية والصّهيونيّة والصّفويّة من مطبّات وغير ذلك، كلّها لم تثن البعث عن مواصلة تميّزه بما أبداه من صبر وتحمّل ومقدرة على التّقليل من الخسائر، فصمد حزب البعث رغم الجحيم الذي يحيط به من كلّ جانب، وبقي الفاعل الرّئيسّ سواء على مستوى الرّؤى والطّرح والتّشخيص والحلول أو على مستوى الفعل المقاوم على أرض الرّباط في كلّ رقعة من هذا الوطن الموشك على الاحتراق.

وإنّ أغرب ما في هذا الأمر هو أن يصمد البعث ويحافظ على مبادئه وثوابته ومنطلقاته الفكريّة والتّنظيميّة ويفعّل ويجدّد نزعته الثّوريّة فيفعّل آليّات النّقد والنّقد والذّاتيّ والديمقراطيّة المركزيّة لا بل ويحافظ على زمام المبادرة فيقود العمل الجبهويّ في أكثر من قٌطر عربيّ وخصوصا في العراق، ويتفطّن ويستبق مكر الأعداء ويجهّز الخطط الكفيلة بمواصلة المعركة المفتوحة ضدّهم في سبيل ضمان خلاص الأمّة ولو طال الأمد، وفي الوقت نفسه تكاد تضمحلّ تلك الأحزاب الكبرى والمنافسة تقليديّا للبعث للحدّ الذي تفسّخت فيه الهويّة الشّيوعيّة عند الشّيوعيّين العرب وغير العرب فأصبحت مجرّد أحزاب قٌطريّة إقليميّة ومنها ما لا يتورّع عن التّحالف مع رؤوس الامبرياليّة والصّهيونيّة والاستعمار، ومنها من يصطفّ خلف عمائم الدّم والشّعوبيّة في إيران الفارسيّة الصّفويّة، رغم أنّها لم تتعرّض لما لا يعادل حبّة خردل ممّا عاناه البعث والبعثيّون.

لم يأت إذن صمود البعث من فراغ، وليس في هذا الحكم مجانبة للصّواب، ذلك أنّ تمسّك البعث بمنهاجه الاستراتيجيّ وخطّه النّضاليّ العامّ القائمين أساسا على مركزيّة الأرض ومحوريّة الإنسان العربيّ في كلّ المعادلات والمواقف والمواقع جعل من أدائه ملتصقا بتحقيق المصلحة القوميّة العربيّة الاستراتيجيّة العليا كما هي بلا انحرافات أو مساومة أو وصاية، وهذا المنهاج العامّ يتجلّى في عدد من مظاهر التّفرّد البعثيّ والتّمايز الذي طبع مسيرته طويلا حيث ظلّ البعث الحزب الوحيد في الوطن العربيّ الذي لم ينخرط في المحاور وخاصّة الإقليميّة منها بل حاربها منذ التّأسيس وتصدّى لها وفضح أخطارها وعرّى دوافع المتدافعين إلى تبنّيها والانغماس فيها، كما كان هذا الصّمود مسنودا بالإيمان الرّاسخ بالجماهير وبالعروبة ومدى ارتباط البعث بأرض العرب وهو ما عكسته الضّريبة الباهضة والعالية التي دفعها ولا يزال يدفعها البعث في سبيل مناعة الأمّة والحيلولة دون مخطّطات الأعداء التّقليديّين كالصّهيونيّة والاستعمار والصّفويّة الخمينيّة والوافدين من القوى الطّامحة أو العاملة على استرداد أمجاد غابرة، وقبر أمانيّ الطّغاة ولم ترهبه قدرات برابرة العصر ومخزونهم الرّهيب من السّلاح والحقد على العرب والتّهوّر والنّهم والتّعطّش للسّيطرة على العالم وخاصّة العرب بعيدا عن احترام القوانين والأعراف المنظّمة للحياة البشريّة، فما كان من هذه الجماهير وقد تحسّست صدق البعث وسلامة رؤيته وقراءته للواقع في كلّ الحقبات، ونظافة يده وعلوّ همّة رجالاته وقيادته إلاّ أن التفّت حوله مناصرة داعمة موفّرة الحاضنة الجماهيريّة الشّعبيّة وهي معين الحركات الثّوريّة الذي لا ينضب معبّرة في لحظة صفاء روحيّ وعقائديّ عن تثمينها لفعل البعث وأدائه وعطائه.

أفلا يسمح كلّ هذا التّميّز والتّمايز والصّمود للبعث أن يقف مزهوّا بنفسه شامخا على أرض الثّبات والالتزام هازئا بالدّسّاسين الماكرين، ومواصلا للصّمود والتّحدّي.؟





الجمعة ٢١ رمضــان ١٤٣٨ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٦ / حـزيران / ٢٠١٧ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أنيس الهمّامي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة