شبكة ذي قار
عـاجـل










ان واقع العراق الاجتماعي والسياسي بات مبكيا ومحزنا ، اذ ان أغلب العراقيين تغلغلت في نفوسهم الممارسات الطائفية والعنصرية قولا وفعلا .. ان واقع العراق الاجتماعي لم يشهد حربا أهلية طيلة تأريخه الحديث ، بل طيلة عمر حضارة وادي الرافدين التي تمتد آلاف السنين .. فمهما اختلف السياسيون وتنابزوا وانقلب بعضهم على بعض فان سلم العراقيين الأهلي وتعايشهم المشترك لم يتأثر ، فقد عاشوا بمختلف انتماءاتهم وألوانهم في وئام ونصرة خصوصا وأن الكثير من أبناء العراق ، ولاسيما المسيحيون والصابئة ، هم عرب أبدعوا وأنتجوا وصعدوا الى أعلى المناصب من خلال لغة الضاد التي اشتركوا بها مع غالبية العراقيين .. ولهذا فان احترام الخصوصيات المشتركة أصلا اتفق العراقيون على احترامها حتى لا يمكننا أن تميز المسلم من المسيحي أو الصابئي أو غيره الا من خلال أن الأول يدخل المسجد والثاني يدخل الكنيسة أو المندى ، فضلا عن حالات الاختلاط والتصاهر والاشتراك في المناسبات الاجتماعية والوطنية والدينية .. فكثير من العراقيين المسلمين دخلوا كنائس المسيحيين وشاركوهم في أعيادهم ، وكثير منهم ارتمس في نهر دجلة اشتراكا مع الصابئة في عيد الطهارة ودخلوا أماكن عبادتهم بلا تردد أو وجل .. ولم يشهد تأريخ العراق أن فجر مسجد أو دمرت كنيسة أو هدمت دار عبادة مهما كان عابدها ، ولم نشهد أن خطف شخص بسبب انتمائه الديني أو هجر شخص بسبب اضطهاد ديني أو منع من دخول معبده الخاص في حدود العرف والقانون ...

لا يعتقد البعض أن المجتمع العراقي كان خاليا من المتعصبين أو المكفرين أو المتهكمين من الآخر ، فهؤلاء كانوا متواجدين ولكنهم غير مؤثرين ، اذ ان تيار التسامح والاعتدال كان أقوى من أن يصده الفكر المتطرف الذي حشر في زوايا مظلمة حجمت من تأثيره في تخريب أسس التعايش السلمي بين العراقيين .. ربما يعتقد البعض أن طبيعة المجتمع العراقي المتنوعة سمحت عبر التأريخ بتأسيس قواعد وسلوكيات مشتركة اعتاد المجتمع على احترامها والتقيد بها ، وفي مقدمتها احترام الآخر مهما كان معتقده ودينه ، ولكن من المؤكد أن سماحة الاسلام كدين لغالبية العراقيين ساهم كذلك في بروز خاصية احترام التعدد وحرية الاعتقاد ، لأن طبيعة الاسلام المتسامحة كانت تعطي الآخر غير المسلم حرية التعبيرعن كينونته دون اكراه ولا تضييق .. ولكن اليوم وبعد أن تحلل مشروع الدولة العراقية وفقد الدين قداسته لصالح المشاريع الطائفية والعنصرية ، انحدر الكثير من العراقيين من برج الدين الى حضيض الطائفة و تلبستهم أفكارها الجامدة والضيقة ، فهم يتقوقعون في حدود الطائفة ويرون كل من هو خارج عنها بمنظار التكفير والارتداد عن الملة .. فشكلت اثارة الأحقاد الطائفية بين المسلمين ، والحرب الدينية ضد غير المسلمين محور استراتيجية الفوضى الخلاقة التي رسمها التحالف الأمريكي - الصهيوني - الفارسي الذي قاد الحرب على العراق ، ولم تكن الأهداف بطبيعة الحال مجهولة ، فتفكيك العراق الى دويلات متناحرة على أساس الطوائف والعصائب سيمهد لاختفائه من خارطة الفعل العربي المقاوم لوجود اسرائيل ومصالح أميركا ، ويمهد لشرق أوسط جديد تجد فيه الدولة العبرية متنفسا للريادة لكونها أكبر الأقليات الدينية الموجودة في المنطقة .. فكان تفكيك المجتمع العراقي يهدف الى افقاد ذلك المجتمع لدوره السياسي والعسكري كحاضنة داعمة للمقاومة العراقية التي ضربت في الصميم آلة الحرب الأميركية ، كما كان وسيلة لاظهار هشاشة الوحدة التي جمعت العراقيين واقرار حقيقة جديدة وهي أن العراق الموحد غير موجود في أرض الواقع ، وأن عراقا آخر يجب أن يتشكل وفق عقد اجتماعي جديد يكون بديلا عن حالة الاحتقان والحرب الأهلية القائمة .. لقد كان لتأسيس المليشيات وفرق الموت أحد الأساليب المسمومة التي زرعتها أميركا واسرارئيل وايران في الجسد العراقي لتفكيك نسيجه الاجتماعي عبر اثارة الحرب الأهلية والتهجير والقتل والخطف وتفجير دور العبادة والقتل المتبادل للشخصيات السياسية والعشائرية والدينية ، ولم يكن الأمر مقتصرا بطبيعة الحال على طائفة أو قومية ، بل امتد ليشمل منذ بداية الاحتلال اثارة الفتنة بين المسلمين وغير المسلمين في اطار ما سمي ب "التفجير المتوازن" ، فمع كل تفجير لمسجد اسلامي يتم تفجير كنيسة مسيحية ويخطف أو يقتل رجل دين مسيحي ، وتهجر وتقتل عوائل صابئية وشبكية ويزيدية ...

لقد طالت يد القتل باسم الدين كل من هو "رافضي" و"ناصبي" و"كافر" و"مرتد" و"مشرك" حسب وصف الجماعات المتطرفة وفرق الموت التي رعاها المحتل بهدف الغاء ثقافة التسامح والقبول بالآخر وتثبيت منهج العنف والعنف المضاد بين العراقيين ، وصولا الى اقرار حالة عدم التعايش بين مكونات الشعب العراقي ، وبالتالي فرض منهج تقسيم العراق الى دويلات ثلاث "كردية" و"سنية" و"شيعية" بوصفه هدفا أميركيا تسانده قوى عراقية فاعلة في الساحة السياسية وقوى اقليمية متدخلة بشكل سافر في الشأن العراقي ...

اليوم وبعد أكثر من أربعة عشر عاما من الاحتلال بات المشهد العراقي مؤلما ويشبه لوحة مظلمة اختلطت ألوانها ، وانتفت عنها فضيلة التجانس والصفاء ، بعد أن أصبحت خطوط الفرز الطائفي والعرقي معلومة ، وباتت الجماعات الدينية معرضة للتذويب ، بل ربما الابادة في ظل عمليات التهجير والقتل والترحيل القسري الذي تعرض له المسيحيون والصابئة والشبك والايزيديون ، في واقع جديد ألغى عن العراق كل صفات التنوع الديني والثراء الفكري ، وثبت بامتياز لغة الرأي الواحد والدين الواحد والمذهب الواحد .. ولكن من الواضح أن محن الشعوب الحية تفرز باستمرار مضادات الصمود والتغيير ، وفي المحنة العراقية فان تعثر مشروع الاحتلال واستمرار مقاومته المسلحة يعيد للعراقيين شيئا من الأمل بأن مقومات البقاء ستتغلب على عوامل الفناء .





الخميس ٢٤ ربيع الثاني ١٤٣٩ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١١ / كانون الثاني / ٢٠١٨ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب بنت الرافدين نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة