شبكة ذي قار
عـاجـل










بسم الله الرحمن الرحيم

إرتبط مفهوم السياسة في الفكر الأسلامي بالحكم ومؤسساته وعلومه فالحكم يعني تدبُّر , إدارة , تولّي أمر , تفاعل مشترك , حماية حقوق , مسؤولية شرعية ووظيفية , تحقيق مصالح وتوثيق رسمي للنوايا والتوقعات والأهداف لمن يتصدَّر المشهد السياسي القائم لأنه هو المسؤول عن صنع القرارات وتطوير الإمكانيات وترشيد العمليات ومتابعة التنفيذ وبيان أدوار الفاعلين وأنشطتهم والسياسة في اللغة جاءت من مصدر ساس أو يسوس فيقال ساس الخيل أي إهتم به ورعاه وروّضه وعندما أرتقى الأنسان في أعماله وأدواره ونواياه أنتقل الى الإعتناء بالآخرين فتولّى أمرهم وأخذ بأيديهم وقادهم الى جادة الصواب فأصبح من الجائز القول سُيِسَتْ الرعيّة بمعنى أمرتُهم ونهيتهم فساس الأمر أي قام به ونظَمه وأصلح مسالكه وبالتالي كان كل ما يصلح الشيء وينظّمه فهو سياسة وما يصلح شأن الناس وأحوالهم ويلبي حاجاتهم ويطوّر إمكانياتهم ويحمي أوطانهم وينمّي قدراتهم فهي سياسة وكل ما يتعلق بالقيادة والحكم والسلطات في المجتمع غايته أسعاد الناس وإصلاح أمنهم وإستقرارهم فهو سياسة ويُعد الفكر السياسي من المواضيع الهامة التي نالت تركيز وسعي كثير من المفكرين والدارسين في العالم أجمع وهو أحد حقول علم السياسة وأحد فروع العلوم الإنسانية التي ترْعى وتهتم بجميع الإجراءات والوسائل الكفيلة بإتخاذ القرارات المختلفة بغية إستقرار وإسعاد الجماعات البشرية ويمكن القول أن الفكر السياسي هو العلم الّذي يهتم بتوجيه النظام السياسي وتوزيع سلطاته داخل الدولة والمجتمع وخارجهما لأن الفكر السياسي يضم مجموعة من النظريات والأفكار والقيم التي توجّه الدولة ونظام الحكم القائد هو الذّي يتولّى القرارات والقوانين والأنظمة التي تُنظّم حياة الأفراد ومجتمعهم والفكر السياسي على نوعين هما الفكر السياسي التاريخي الذّي يمثّل التراث الفكري والحضاري في تفسير ظاهرة السلطة والذّي تناوله عدد من الفلاسفة والمفكرين والعلماء على مَرْ الأزمنة وأنتجوا أفكاراً سياسية في تاريخهم القديم والذّي يستوجب على جميع الباحثين الإهتمام بدراسته لكونه يمثل نتاجاً إنسانياً هاماً والقسم الآخر يقوم على نظرية سياسية تهمل الزمان والمكان وتبحث عن أيجاد أحكام واضحة تجمع المناهج التجريبية مع ما هو على أرض الواقع.

يَجُرّنا الحديث عن الفكر الإسلامي للعودة الى تلك العصور المُظلمة التي نشأ فيها الفكر الإسلامي بالإعتماد على قيم حضارية وتراثية أرشدها الفكر الإسلامي وأغنى علومها وفصولها بالإستناد على مبادئ الدين الحنيف فقدَم لنا صورة ساطعة لحقبة مهمة من التأريخ العربي والإسلامي أوضحت لنا كيفية نشوء الدولة الإسلامية وكيف تطورت وسادت العالم أجمع وما هو دور الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في قيادة هذه الدولة الفتيّة وإرساء مبادئ العدل والمساواة فيها وما هو دور قادة الفتح الإسلامي في توسيع حدود هذه الدولة وحماية مواطنيها دون تفريق بسبب الدين أو القومية حتى تمكنوا من إقامة مجتمع متعاون وآمن ومستقر بالأستناد الى تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وعند الحديث عن السياسة والفكر السياسي في الإسلام نجد أن القرآن لم يشر بشكل واضح الى السياسة لكنه أشار الى عدة مفاهيم جوهرية في علم السياسة فتحدَث عن المُلْك بإعتباره الحكم على الناس بالعدل والحكمة والإرشاد والنهي عن المنكر والفسـاد والإستغلال في عدّة سور حيث أشار الى الملك العادل والملك الظالم والمستبد فقال ( فقد أتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيما ) كما تحدث عن الأمانة في التعامل والحفاظ على الأموال العامة بحسـن الأداء وجميــل الأعمال فقال ( أجعلني على خزائن الأرض أني حفيــظ عليــــم ) وقال فــي موضوع المحكومية التي هي من المفاهيم الحديثة في الفكر السياسي ( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) وفي مبدأ الشورى الّذي يمثل جوهر الديمقراطية وسماع الرأي الآخر والرأفة بالرعية ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) كما قال ( قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ) أي تطَلِعون وتراقبون وتعلمون وتشيرون بالفتوى لي وفيه دلائل على شفافية التعامل بين الحاكم والمحكوم وتحدث القرآن عن الإستبداد والتسلط فقال ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ( وتحدث كذلك عن التمكين في الأرض فقال ( الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور ) وعن العدل والمساواة بين الناس والدعوة لولاة المسلمين بالحفاظ على المال العام وحقوق الرعية قال ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا وفي آيات متعددة أشار القرآن الكريم الى ضرورة التعاون والمحبة والإيثار بين الناس لكي يعم الأمن والسلام وهذه من أهم واجبات أنظمة الحكم اليوم وبما أن أغراض الناس تختلف وتتعارض فيكون دور القادة والولاة هو التوفيق بين مصالح البشر وبما يحقق مصلحة الجماعة وتنظيم أدارة حوائجها سواء كانت هذه الجماعة في مجتمع أو دولة.لقد أستند الفكر السياسي الإسلامي الى القيم والمعايير الإنسانية الخالدة المتمثلة بحسن التعامل وطيب الخصال وإرساء حقوق الأنسان وحسن الجوار ورفض أي نوع من أنواع التمييز بين البشر فالناس متساوون في الحقوق والواجبات بغض النظر عن لونهم وعرقهم وديانتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم ( كلكم لآدم وآدم من تراب ) وعندما صدر الإعلان العالمي لحقوق الأنسان في ١٠ / ١٢ / ١٩٤٨م كان هذا الإعلان منسجماً تماماً مع أقوال وأفعال ومواعظ سيد الكائنات محمد صلى الله عليه وسلم ومن هذا المنطلق كانت حيثيّات الأعلان العالمي لحقوق الأنسان الّذي فرض على السياسي واجب رعاية مصالح الجميع بطريقة تحقق المنفعة العامة والمصالح المشتركة ودرء المفاسد والمظالم والتي تعد من أهم واجبات الحاكم وكل هذا يندرج اليوم تحت عنوان السياسة في أي وقت ومكان ولقد طبّقت هذه المفاهيم دون الإشارة اليها بشكل واضح في الأدبيات الإسلامية لكن مفهوم السياسة ظهر لأول مرة في قول الرسول الكريم ( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء , كلما هلك نبيّ خلفه نبيّ ) بمعنى أن من يُعلَِم ويُرشد ويوجهّ ويقود بني إسرائيل هم الأنبياء وهذه إشارة واضحة للسياسة والسياسيين بأخذ دورهم في قيادة المجتمع والدولة ورعاية حقوق الناس وتنظيم أحوالهم وتحقيق حاجاتهم وحفظ أموالهم وكراماتهم وما أن أنتهى دور الأنبياء ظهر الخلفاء الراشدون ممن ساروا على نهج ممن سبقهم من الأنبياء والمصطفين الأخيار فإتصفت عهودهم بالرشادة التي هي اليوم من أهم المفاهيم السياسية الحديثة وما أن حل عهد الملوك والرؤساء إختلفت أحوال الناس وظهر الفساد في الكون والغلبة في المواقف والتنافس على مغريات الحياة ولقد ذكر أبن خلدون في مقدمته أن القوة في الدول تركزت في الجيل الأول وما بعده ثم ضعف سلطانها بمرور الأزمنة حتى أذا ما ظهرت الأجيال الأخيرة في تأريخ البشرية لم يكن لهذه الأجيال القوة نفسها والعدالة نفسها والإلتزام بأمر الله كما كان السابقون لأن سبل الحياة وردت للأجيال الحالية جاهزة وبسهولة ويُسر فسهلت عليهم أن يفقدوها لأنهم لم يضعوا الركائز الأساسية لبناء الدولة ومقومات تطورها وإزدهارها فأنطبق عليهم قول الشاعر أبو الحسن بن زريق البغدادي في بعض من أبياته في قصيدته المشهورة لا تعذليه فأن العذل يولعه :

أعطيت ملكاً فلم أحسن سياسته كذلك من لا يسوس المُلك يخلعُه
ومن غدا لابساً ثوب النعيم بلا شكر الإله فعنه الله ينزعه

خلاصة القول أن الشريعة الإسلامية كانت ولا تزال تمثل فكراً سياسياً وإجتماعياً وفقهياً جامعاً ونشاطاً لعقل المسلم لمواجهة متطلبات الحياة وهي نظرية متسامحة للبشرية إرتكزت على قيم العدالة الإجتماعية والحرية المطلقة للإنسان في خياراته حتى الدينية منها فلا أكراه في الدين ولا جاه وسلطان لأحد الا بمقتضى الحقوق فأوجدت مجتمعاً متوازناً قائم على التعاون والتكافل وسلطة قائمة لتحقيق العدالة فإستمدّت هذه السلطة قوتها من أجماع أبناء الأمة وصيانة حقوقهم العامة والخاصة وتوسيع مشاركاتهم في الأمور العامة وتحسين أحوال الرعية.





الجمعة ٢٤ شعبــان ١٤٤١ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٧ / نيســان / ٢٠٢٠ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الدكتور شاكر عبد القهار الكبيسي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة