شبكة ذي قار
عـاجـل










امتنا العربية المجيدة، رافعة راية الحضارة عبر التاريخ ، كانت قد ارتكزت منذ فجر التاريخ وعبر حقبه المختلفة على نشر القيم والثقافة والعلوم والرسالات الايمانية في ربوع المعمورة.

وتشكل الفتوحات العربية الاسلامية حقبة هامة في تاريخ الامة العربية والتاسيس لارثها الانساني الحضاري الذي انتشر شعاعه النيّر على البشرية جمعاء، فتمكن أجدادنا العظام من تحرير الانسان والاوطان من الجهل والشعوذة في مناطق شاسعة وواسعة من هذه المعمورة، تلك المحصورة بين سيبيريا شمالا والمحيط الهندي جنوبا، ومن الصين شرقا الى فرنسا غربا، عبر ثمانين عاما من الفتوحات العربية الإسلامية.

وبالرغم من وضوح الهدف السامي والجلي من نشر الرسالة التي حملها العرب الى الامم الاخرى الا ان هنالك بعض الاطروحات الشاذة التي ظهرت عبر التاريخ في محاولة خبيثة وحثيثة للنيل من تراثنا العربي الإسلامي، والطعن به وذلك للنيل من الامة العربية في حاضرها الراهن ، فاتهمها بعض المستشرقين بأنها احتلال!في محاولة لتشويه صورة العرب وتزييف الحقائق وتغليف المبادئ العظيمة للدين الاسلامي الحنيف.كما سببها البعض الآخر متهماً، من أن العرب بعد إسلامهم قد ضاقت الأرزاق عليهم لجدب بلادهم فأغاروا على ما جاورهم من البلاد!وهناك من زعم أن من أسباب الفتوحات العربية الإسلامية انهيار نظم الري في جزيرة العرب فضعفت من جراء ذلك غلات الأرض الزراعية، وألحقت بالسكان المتزايدين أشد الأخطار.ولهذا فقد تكون الحاجة إلى أرض صالحة للزرع والرعي من العوامل التي دفعت جيوش المسلمين إلى الغزو والفتح!وغيرذلك من الاتهامات التي تخطط لها العديد من المراكز والمؤسسات الغربية والشرقية المتخصصة في هذا المجال للإساءة للارث الحضاري للامة العربية.فقد عزّ على هؤلاء المستشرقين والمؤرخين أن يجدوا في العرب فضيلة من الفضائل، وهي الإيمان المعمق برسالة حضارية انسانية فأرادوا أن يسلبوهم هذه الفضيلة، فلم يجدوا في جعبتهم سوى أن يطعنوا بمثابات تاريخهم وقمم انجازاتهم.

ولعل هذا الأمر يمكن أن ينظر اليه كونه طبيعي فهذا هو ديدن الأعداء ومنهجهم.لكن الأخطر من ذلك هو أن يحاول بعض من يدَعون أنهم دعاة، وبعض من الكتاب العرب في طعن الحضارة العربية ابان الدولة العربية الاموية والعباسية والطعن بالفتوحات ، والتجاوز على التراث العربي الإسلامي ونتاجه الحضاري الذي تشهد له الامم الاخرى قبل العرب.

كما يحاول البعض الآخر الترويج بأن دخول غير العرب الى الإسلام قد أخل بالمنهج العروبي، فنذكرهم بأن الله تعالى وضع ميزان للإيمان والتقوى بعيدا عن العنصرية بقوله تعالى في الآية١٣ من سورة الحجرات { يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم ان الله عليم خبير }.كما وقد شهدت حياة الرسول الاكرم صلى الله عليه وسلم اهتمامه بأصحابه من غير العرب كبلال الحبشي وسلمان الفارسي وجابان أبو ميمون الكردي وغيرهم، مما يثبت انتفاء صفة العنصرية عند العرب في ظل الإسلام.

وقد انتجت الحضارة العربية التي ازدهرت بعد الفتوحات وبالذات في ظل الدولتين الاموية والعباسية ظهور العديد من الفلاسفة والعلماء والأطباء والادباء الأعلام من المسلمين غير العرب الذين أسهموا في بناء الحضارة العربية الإسلامية في شتى الصعد.ونستذكر هنا بعض من هؤلاء الأعلام ، فعلى المستوى القيادي العسكري لا بد من حضور القائد التاريخي طارق بن زياد الذي مازال الجبل الذي سمي باسمه شاخصا وشامخا وشاهدا لعبوره بالأسطول العربي الى الاندلس لينشر الرسالة فيها، وهو من الأمازيغ.كما لا بد من استحضار القائد الفذ العراقي والبطل الكردي، محرر بيت المقدس ،الناصر صلاح الدنيا والدين، يوسف بن أيوب مؤسس الدولة الايوبية ..

وكذلك القائد العسكري سيف الدين محمود قطز الذي تمكن من إعادة تأهيل وتنظيم وإعداد الجيش المصري لمجابهة وإيقاف زحف المغول الذي كاد أن يقضى على الدولة ، فتمكن منهم وهزمهم شر هزيمة في معركة عين جالوت الخالدة، ثم طارد فلولهم حتى حرر الشام، وهو من خوارزم وليس عربيا.

أما علماء الأمة ومفكريها فلا بد من استذكار الفيلسوف الاشبيلي ابن خلدون والطبيب ابن سينا وعالم الرياضيات الخوارزمي والفارابي وغيرهم ممن أسهموا اسهاما فاعلا في تعزيز الحضارة العربية الإسلامية.

وإذا كان هناك من يقول إن المسلمين من غير العرب قد أثّروا سلبا على الأصل العروبي، فنقول إذا كان ذلك صحيحا فان اول ما يتأثر سلبا هو اللغة العربية، لغة القرآن الكريم!فهل تحقق ذلك؟ وللإجابة نجد أن اللغة العربية بفضل الفتوحات أضحت هي لغة الثقافة والمعرفة في عموم العالم الإسلامي، بل ان سيادة اللغة العربية عند الاقوام الذين دخلوا الإسلام قد أسهم في تعميق الثقافة العربية وتغذيتها من العلماء ورجال الأدب من غير العرب.وقد برزت تلك النخبة من غير العرب ممن عشقوا اللغة العربية وأسهموا في اغنائها ادبا وشعرا حتى هجروا لغتهم الأم، ولعلنا هنا نذكر مثالا واحدا في سيبويه الذي كان أول من بسط علم النحو فيها.

وإذا كان قد ظهر بعض من الأشرار من غير العرب خلال حقب الزمن من عمر التأريخ العربي الإسلامي ممن ناصبوا العداء للامة وسعوا للتخريب كالفرس ، فهم لا يمثلون كل الاقوام التي انصهرت في امتنا وتعلمت لغتنا وقرأت القرآن الكريم وتخلقت بأخلاقه.كما ان لسان التأريخ يحدثنا عن تلك الفرق من العرب أنفسهم التي ابتدعت وحرفت وزيفت وغلفت حقائق ومبادئ الدين الحنيف، كالخوارج وغيرهم.فلا ينبغي الا أن ننبذ العنصرية ونعطي كل ذي حق حقه.فالحضارة العربية الاسلامية كانت خيمة وموطن الجميع ، والعرب لهم ميزة رفع راية الإسلام، ونشر رسالته السمحة وتعاليمه العظيمة بين الناس.

إن الفتوحات التي قامت على أكتاف الخلفاء الراشدين وبسواعد المجاهدين العرب المسلمين من الآل والأصحاب، ومَن جاء بعدهم لهي بحقٍّ مفخرة من مفاخر التاريخ ودرة على جبين كل عربي.وكان الدافع الرئيسي لهذه الفتوحات هونشر إرادة الخير للبشرية جميعاً ونشر الرسالة للانسانية.وهذا الأمر جعل من أمة العرب مطمعاً لقوى ظالمة استمرأت استعباد البشر وإذلالهم والتحكّم في إراداتهم ومواردهم.فواجهت الامة العربية، وما زالت تواجه منهم، مع مطلع كل شمس، غزواً منظّماً وجيوشاً من الأفكار الهدامة المتلاحقة، التي تريد تطويق بلادهم وأرضهم وعقيدتهم لا لجرمٍ اقترفوه ولا لإثمٍ اكتسبوه، وإنما لأنهم أرادوا الأخذ بيد البشرية إلى عقيدة تحترم الإنسان وعقله، وتهذّب أخلاقه وشهواته، وتجعله بعيداً عن الرذائل مقبلاً دائماً وأبداً على الفضائل.

لقد خرج العرب إلى فتوحاتهم حاملين معهم عقيدتهم ورسالتهم لخير الانسانية بدافع إرادة الخير، فكانت النتيجة أن انهالت الشعوب على اعتناق هذه العقيدة، إلا أن جماعة استولى الحقد عليها وهالها أمر ذلك اخذت تنال من الفتوحات ومن الدولة الاموية والعباسية قدحاً وتشويهاً، وهم جماعة المستشرقين وأذنابهم ومن والاهم ممن ينتمي إلى الإسلام.فأعدوا العدة، وجهّزوا الجيوش من كتب وكتيبات وصحف ومجلات، وكذبوا وافتروا وتنمّروا واعتدوا، وحاولوا جاهدين وسم الفتوحات الإسلامية بوسم الدموية، وأنها عملت على نشر الإسلام بالقوة وحدِّ السيف، وإرجاع الفتوحات الإسلامية إلى دوافع غير دينية، معللين إياها بدوافع اقتصادية ومصالح شخصية خاصة بالفاتحين وقادتهم.

ان معرفة تاريخنا المشرف كامة عربية وارثنا الحضاري الذي ساهم بتطوير البشرية ودراسة سير ابطاله ومسيرتهم في حمل لواء العروبة أمر لا بد منه لكل عربي حريص على نصرة أمته، فهؤلاء كانوا خير جيل وَطِئ الثرى، وخير من رفع شأن الامة وافاد الانسانية من ابداعاتهم ، فكانوا مصابيح الهدى وأنوار الدجى، ومشاعل النور التي بددت ظلمات الجهل والظلم والعبودية وقوّضت أركان الظالمين، وعروش الجبابرة المتألِّهين.

كما أن دراسة تاريخهم، مفصّلاً و بأدق جوانبه، من شأنه أن يخرس ألسنة الحقد، ويكمِّم أفواه الطعن، ويطفئ جذوة الفتنة.
لقد كان من نتيجة هذه الفتوحات هو الإزدهار الإقتصادي للدولة في ظل الحضارة العربية الاسلامية ، وتشكيلها لإحدى كيانات العالم والمراكز الثقافية التي أشتهرت بعلمائها وأدبائها.ونشر اللغة العربية في العديد من الدول التي لم تتكلم العربية سابقاً.وحتى في بعض الدول الأخرى ( مثل بلاد فارس وهندوستان ) التي لم تغير لغتها، فقد كانت تكتب بحروف عربية.

لقد فتح العرب الشام ومصر والعراق وفارس.بعدها إزدهرت الحضارة العربية في الدول التي دانت بالإسلام طواعية تحت ظلال الخلافة الراشدة والأموية والعباسية.و لقد ظلت الخلافة الراشدة ثلاثين عاما ( ٦٣٢ – ٦٦١ م ).ثم تأسست الدولة الأموية ( ٦٦١ - ٧٥٠ م ) بدمشق وحكمت حوالي قرن.وكانت تمتد من غربي الصين إلى جنوب فرنسا حيث كانت الفتوحات الإسلامية وقتها تمتد من شمال أفريقيا إلى إسبانيا وجنوب فرنسا بغرب أوروبا، وبالسند في وسط آسيا وفيما وراء نهري جيحون وسيحون.واقيمت المؤسسات الإسلامية والمساجد والمكتبات في كل مكان لكي تشيع العلم والمعرفة والتطور.

و كان الأمويون بدمشق قد حاولوا فتح القسطنطينية عام ٧١٧ م.وإبان حكمهم فتحوا شمال أفريقيا.وكان أول نزول لقوات الفتح العربي الإسلامي بأرض الأندلس بشبه جزيرة إيبريا ( أسبانيا والبرتغال ).فكان أول إنتصار لهم هناك عام ٢٩ هجرية ( ٧١١ م ) في معركة وادي البرباط، لتبدأ مسيرة الفتوحات بجنوب ايطاليا وصقلية.حتى بلغت برنديزي والبندقية بإيطاليا على بحرالأدرياتيك.حيث خضعت كل جزر البحر الأبيض المتوسط من كريت شرقا حتى كورسيكا غربا للحكم العربي الإسلامي.

وكانت عاصمة الخلافة الأموية الثانية بالأندلس ٧٥٦ – ١٠٣١ م مدينة قرطبة التي شيدها الأمويون أكبر مدينة في أوروبا.حيث حكموا الأندلس زهاء القرنين.وكانت هذه الخلافة منارة للحضارة الانسانية التي شعت على الغرب باجمعه.

لقد كانت رسالة العرب للامم عبر الفتوحات هي نشر العدل والقضاء على الظُلم والجهل ومنع الاستحواذ على أرزاق الناس، و رعاية مصالحهم، وفتح مغاليق التأخر، ونشر نور العلم والمعرفة والعمل على اشاعة التحضر، ولم يبحث العرب بالفتوحات الإسلامية عن الأغراض الدنيوية أو التسابق في مظاهر الغنى والثراء أو مظاهر البذخ والإسراف، فضربوا أروع الأمثلة بالزهد في الدنيا والخشونة بالمعيشة، والإخلاص بالقتال، والتفاني في سبيل إعلاء كلمة الحق واليقين والإصلاح، لهذه الأسباب فُتحت الشعوب والامم لهم جوانب الدنيا شرقًا وغربًا وتمكنت لهم جوانب العزة والكرامة.ومن دلائل ما تم ذكره رسالة سعد بن أبي وقاص إلى رُستم قائد الفُرس في معركة القادسية والتي أرسلها مع ربعي بن عامر، حيث جاء فيها : "إنا لم نأتكم لطلب الدنيا، والله لإسلامكم أحبُّ إلينا من غنائمكم".

وظهر خلال الفتوحات في أفريقيا وأوروبا أبطال ذكرهم التاريخ بأرقى الكلمات ومنهم موسى بن نُصير وطارق بن زياد، فكان لانتصاراتهم أعظم الأثر في ترسيخ الدولة العربية في الأندلس لمدة ثمانية قرون، وأقامة حضارة نيّرة لم تعرفها البشرية بسعتها وشمولها وعظم عطائها الانساني.







الثلاثاء ٢٣ ذو القعــدة ١٤٤١ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٤ / تمــوز / ٢٠٢٠ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الدكتور وحيد عبد الرحمن نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة