شبكة ذي قار
عـاجـل










كتابة الأحداث التاريخية مسؤولية كبيرة، مسؤولية تجاه الأحداث بحد ذاتها من جهة وأمانة يفرضها الحاضر والمستقبل من جهة ثانية، وهي مختلفة تماماً عن كثيرٍ مما يجري الآن بزعم "كتابة التاريخ" أو إعادة كتابته "برؤية معاصرة".

بدءاً، وقبل كل شيء، فإن إسقاط مقاييس الحاضر ومعاييره على الأحداث التاريخية التي جرت في أزمان سابقة جريمة مزدوجة، جريمة بحق الأحداث ذاتها وجريمة بحق التاريخ كله.

ثانياً، إن كتابة الأحداث التاريخية بأقلام محبيها، وقراءتها بعيونهم، قد تكون أكثر موضوعية، وقد يقول آخرون إنها أكثر إنصافاً، من كتابتها بأقلام كارهيها وقراءتها بعيونهم، ذلك أن الحالة الأولى، المدفوعة بالحب، تُبرِز المحاسن، أو تُبالغ فيها، ولها أن تصل إلى حد اختراع قصصٍ على هامش الحدث التاريخي نفسه أو طمس وقائع حصلت في سياق الحدث الأساس، وهي مع مجانبتها لبعض الحقائق لكنها لن تؤثر في سياق وقوع الحدث بعينه، فما حدث حدث بالفعل، أما الثانية فهي تخترع تاريخاً غير موجود وتتوهم أحداثاً لم تحدث وتلغي من صفحاتها وقائع حدثت وتجعل من التأويلات المغرضة وقائع تاريخية، ويدفعها الكره المدمر، وهذه كوارث تصيب الحقيقة بمقاتل.

من هنا نطرح سؤالاً كبيراً بحجم التصدي لمهمة من هذا النوع :
كيف يمكن لنا أن نكتب تفاصيل حدث تاريخي كبير خاصة إذا كان مثيراً للجدل، وكيف لنا أن نقرأه ونحن على أعتاب تمام نحو ستة عقود على حدوثه؟
ولأن السؤال كبير لذا لن نزعم اليوم جرأتنا على كتابة تاريخ ما حدث قبل ٥٩ عاماً أو قراءة كل ما جرى حينها، بل سنكتب بعض الحواشي على ما حدث ..

الحاشية الأولى
هل كان حزب البعث العربي الاشتراكي عازماً على تسلم حكم العراق عندما قام بثورة الثامن شباط، ويسميها بعضهم انقلاباً، أم كان هناك هدف آخر؟
قد يبدو صادماً القول إن هدف "البعث" حينها لم يكن تسلم السلطة بحد ذاتها، لعدة أسباب :

١. فالحزب لم يكن قد تعافى بعد من الآثار السلبية التي ترتبت على محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم وألحقت بتنظيماته أضراراً جسيمة وعلى مستويات عدة قيادية ووسطى وقاعدية،
٢. والحزب لم يكن يضمّ أكثر من ١٠٠٠ عضو، وربما أقل، في جميع أنحاء العراق، وهو عدد قليل قياساً إلى عدد نفوس العراقيين وقتها، من جهة، وقياساً إلى عدد أعضاء منافسه الأول وهو الحزب الشيوعي الذي كان عدد أعضائه يصل إلى مليون شخص، من جهة ثانية.

ما الذي كان يرمي إليه "البعث" إذاً؟!
باختصار، لم يعد بقاء حكم قاسم مقبولاً من العراقيين الذين ساءهم أن يتحكّم عصابي متقلّب المزاج دموي على نحو بشع بمصير بلدهم والحركة الوطنية فيه، خصوصاً بعد فشل محاولتين أساسيتين للانتفاض ضده، الأولى هي محاولة عبدالوهاب الشواف، والتي لم يكتفِ قاسم بقمعها بل استباح المدينة التي حدثت فيها لعدة أيام، والثانية في محاولة اغتياله على يد عناصر من حزب البعث، لذا كان القرار هو التغيير التام بفعل عسكري مباشر يزيح كل النظام وليس رأسه فقط، ويزيل معه أركان قوته ويستبدل ما يعتمد عليه من قوى ناعمة حتى لو كانت غير مرئية لغير القائم بالتغيير.

وكان قدر حزب البعث العربي الاشتراكي أن يتصدى لهذه المهمة، ليس لأنه الأقدر عليها بل لأنه الأجرأ، ولأن عناصره الأكثر إيماناً بضرورتها، وربما حتميتها.

ومن دلائل هذه الحقيقة :
١. أن "البعث" تخلى لعبد السلام عارف عن موقع المسؤولية الأول في قيادة العراق، ولم يكن لعارف أي علاقة بالحدث حتى ولو على سبيل العلم به.
٢. أن "البعث" ارتضى أن يشاركه في الحكم من ليس له دور إطلاقاً في تنفيذ التغيير، وكان بعضهم، شخوصاً وجماعات، ممن له بعض الخلافات الفكرية معه على أقل تقدير، وبعضهم سياسية أيضا.

وهاتان حقيقتان تخالفان ما كان سائداً من تقاليد في الحركات الثورية التي تنجح في الاستيلاء على الحكم في بلدانها حينذاك، حيث تنفرد بالحكم ولا تفسح مكاناً لشريك، كما تدلّان على أن "البعث" منفتح تماماً على إقامة التحالفات مع الشركاء السياسيين، والأهم إنه لم يكن راغباً في السلطة، بحد ذاتها، وإنما حريصاً على التغيير في معناه الشامل، وقد كان ولكن!

الحاشية الثانية
في بدايات العام ١٩٦٠ قرر حزب البعث العربي الاشتراكي تشكيل مكتب لقيادة تنظيماته العسكرية، وضمَّ المكتب الذي تولى مسؤوليته عضو القيادة القطرية المقدم الركن صالح مهدي عماش، كلاً من : النقيب محمد علي سباهي، الذي أبعد سريعاً لأسباب فكرية وتنظيمية، والملازم أول علاء الدين كاظم الجنابي والملازم أول منذر الونداوي والملازم أول سامي سلطان.

لم تكن قيادة المكتب العسكري تهدف إلى تولي تشكيل وقيادة خطوط تنظيمية فحسب، حتى وإن كانت خطوطاً عسكرية، بل إلى تنفيذ عمل تغيير جذري لنظام عبد الكريم قاسم بالكامل وبالمعنى الحرفي لعبارة "تغيير النظام بالكامل"، ولأنه كذلك لم تكن مقتنعة بأن يتولى أعضاء المكتب وحدهم قيادة هذه المهمة، إذ كانت ترى فيها مهمة وطنية وليست واجباً حزبياً فحسب، لذا سعت إلى الانفتاح على طيف من الشخصيات الوطنية من خارج التنظيمات الحزبية، للمساهمة في إنضاج فكرة التغيير الشامل ثم في تنفيذ هذه الفكرة، وهو عملٌ موازٍ لمسؤولية المكتب لكنه غير مرئي لكثيرين.

ومن جهة أخرى فقد عملت قيادة المكتب العسكري لضم العقيد أحمد حسن البكر والمقدم الركن خالد مكي الهاشمي والرائد الركن عبد الستار عبداللطيف والرائد الركن حردان التكريتي إلى العمل ولكن ليس في المكتب العسكري بل في ما تم تسميته "اللجنة الاستشارية" المتفرعة عنه، والحق أنها لجنة "التنفيذ الفعلي" للثورة، التي ضمّت أيضاً في وقت لاحق، ربما متأخر، كلاً من المقدم الركن خالد حسن فريد والمقدم الركن صبحي عبد الحميد والمقدم الركن إبراهيم جاسم، وهؤلاء الثلاثة ليسوا من أعضاء حزب البعث العربي الاشتراكي.

الحاشية الثالثة
ولأن العمل المقصود في المحصلة ليس انقلاباً عسكرياً فحسب بل عملاً ثورياً شاملاً كان حضور ممثل عن القيادة المدنية في الحزب إلى الاجتماعات التحضيرية للمكتب العسكري ضروري، ليتسنى ترتيب موضوع صلاحيات اتخاذ القرار في مشاركة عناصر من التنظيمات المدنية وهكذا جرى حضور أمين سر الحزب، علي صالح السعدي، لبعض تلك الاجتماعات.

ولأن التغيير الشامل في تلك المرحلة، وحتى الآن أيضاً، يتطلّب قوة فعلية على الأرض لإزاحة القوة القائمة فإن العسكريين الثوريين المبدئيين هم أداة التغيير الأولى على أن تلتحق بهم باقي الدوائر التنظيمية أو الشعبية، وهذا درس ثوري يفصل بشكل دقيق بين "الانقلاب العسكري" الذي يكتفي بتبديل أفراد بأفراد فقط، وبين "الثورة" التي يشترك فيها الجميع ويتولى صفحاتها التنفيذية في البداية، بحكم التخصص، قادة عسكريون، وتتضمن تغييراً شاملاً وعميقاً في المجتمع والدولة ووفق استراتيجية واضحة وخطط دقيقة.

ماذا يعني هذا؟
ببساطة يقدم هذا المثال نموذجاً ممتازاً لكيفية صناعة الثورات الشاملة، حتى تلك التي ينفذها عسكريون، ومن هنا فالذي حدث صبيحة يوم الثامن من شباط ليس مغامرة يقودها ضباط انقلابيون، كما يصوّر ذلك متضررون من هذا الحدث التاريخي، بل هو فعل ثوري شامل شاركت به خطوط تنظيمية عديدة، عسكرية ومدنية وأدّى كل خطٍّ منها واجبه الثوري في التنفيذ، بلا تضاربٍ وإنما بتكامل.
وهذا درسٌ على الساعين للتغيير في أقطارنا العربية أن يدرسوه جيداً ويستوعبوا تفاصيله.

الحاشية الرابعة
في الاستخلاصات يُمكن أن يُقال كثير، ومن الكثير الذي يمكن أن يُقال :
لأنه لا يوجد في القوانين شيء اسمه ثورة، فأنت متمرد يعاقبك القانون ما لم تنجح، لذا لا تقم بنصف ثورة، أكملها وانجح.

الثورة ليست جمعية خيرية، فهي ليست داراً للعجزة ولا مبرّة أيتام، إنها فعل خلّاق صانع للحياة محقق للآمال لذا لا تضمَّ إلى صفوفك إلا الثوار الحقيقيين المؤمنين بمشروعك على وجه اليقين وليس الظن، ويمكن للآخرين أن يكونوا ضمن سيل التغيير الجارف، الذي يمكن أن يحوي كل شيء، لا ضمن مهمات القيادة.

إياك أن تضمَّ إلى صفوفك من فشل في صنع ثورة أو أخفق في إنجاحها، مثل عبد السلام عارف، فهذا يريد أن يعوّض فشله من خلال ثورتك، فهذا يريد أن يختم حياته بعمل يُدخله التاريخ، فيما هدفك هو صناعة التاريخ لا أن تُذكَر فيه.

عند تشكيل تحالفات و العمل مع شركاء لتحقيق اهداف وطنية، فمن الضروري ادراك أن القيادة برؤوس غير منسجمة في حقيقة منطلقاتها وفي غاياتها، تجربة ستتعرض إلى تحديات كبيرة لذا لابد من التحضير لذلك والتعامل معه بوعي يحقق التوازن بين سعة الأفق من جهة والحسم من جهة أخرى، وهذا ما واجهته ثورة الثامن من شباط بعد نجاحها، لأنها أحضرت عبد السلام عارف من داره في الأعظمية إلى كتيبة الدبابات الرابعة في معسكر أبو غريب، بملابسه المدنية وحملته إلى سدة الحكم في القصر الجمهوري، في ناقلة جنود مدرعة حملت العقيد أحمد حسن البكر والرائد عبد الستار عبد اللطيف وقد كان حين تنفيذ الثورة يغطّ في نوم عميق، ومثله آخرون تولوا مناصب في حكومة الثورة وحازوا منافعها ولم يشاركوا بها ولم يكونوا يعلمون بها حتى، ونفّذوا خططهم على حساب من قدّم دمه لأجلها.

باستثناء التحالفات السياسية الراسخة، إذا تسلل إلى ثورتك من ليس في صفوفها فعلاً حاول أن تُنزِله في أقرب ميناء، ولا بأس أن تصرفه في قارب طوارئ حتى لو كنتم في عرض البحر إذا لزم الأمر، وإياك أن تسمح له بالبقاء على ظهر سفينتك فقد يُغرقها كلها أو يُغرقك وينجو.

العملية الثورية سلسلة مرتبطة الحلقات في حالة حركة، حيث تقوم الحلقة الأقوى والأكثر إصراراً بدفع الحلقة الأضعف والأكثر ارتباكاً إلى السطح، لكن الأخيرة يمكن أن تسحبك إلى القعر وهذا مقتل الثورات، وكان هذا من التحديات التي واجهتها ثورة رمضان.

التطهير الثوري لا يعني الانتقام، والعمل الثوري وإن كان وليد النقمة الشعبية إلا أنه لا يتبنّاها عند الوصول إلى الحكم، لذا تعامل عند تولي الزمام بروحية جديدة مختلفة عن روحية الثائر.

احذر من الانتهازيين، فهؤلاء يبيعونك عند أول منعطف بعد أن كانوا ساوموا عليك في أول غروبِ شمس.

كن على حذرٍ من المغامرين فهؤلاء يركبون مركبك لأغراض الإثارة لا لغرض الإبحار بالسفينة إلى شاطئ الأمان، والثورة ليست مغامرة، فهي نتاج تخطيط دقيق وعبقري وتنفيذ جَسور للوصول إلى حالٍ أفضل وليست عملاً من أعمال الإثارة أو جلب الأنظار وبالتأكيد ليست فعل متهورين.

اعطِ القيادة لمن يستحقها من المحترفين المؤتمنين ولا تمنحها للهواة فهؤلاء لن يحققوا أهدافك.

الروح الاقتحامية، كالتي تميزت بها ثورة رمضان، ضرورية للثورة لكن على الثوار أن يغادروها في أول أيام تسلمهم للسلطة، حيث يأتي هنا دور الأداء العقلي المتروّي الناضج البنّاء.

معايير الثورة غير معايير بناء الدولة، والعكس صحيح فتقاليد هذه لا تنفع في تلك، افصل بينهما حتى في أدبياتك الثقافية وخطابك الإعلامي، وطبعاً تحالفاتك السياسية في الداخل وحركتك الدبلوماسية في الخارج.
تحسّب لكل التفاصيل، فربما يأتيك الفشل من حيث لا تدري، أو من حيث تأمن.تحسّب جيداً لكن لا تتردد.

الكوادر الإدارية غير المنسجمة تعني تضارباً في أساليب العمل وفي غاياته، لذا حاول بناء كوادرك قبل الشروع بالثورة أو هيء بعضاً منها، وخلاف هذا يُفشلِك ويؤلّب الجماهير ضدّك ويسرّع بالثورة المضادة عليك ويؤدي إلى الانقضاض عليك تاليا، وإن لم يكن لديك ما يكفي من كوادر اضبط ما هو موجود جيداً وابن جهازك الإداري بسرعة.

الثورة ليست إلا انفجار مخزون غضبٍ جماهيريٍ تحت قَدرٍ هائلٍ من الضغط، لا يستلزم إلا شرارة، وهذا يعني أن ثورات الشعوب ليست صعبة لكن حدوث الشرارة هو الأصعب، وغالباً ما تأتي بلا ميعاد.

ختاماً
ثورة رمضان، وهي عروس ثورات النضال الشعبي العراقي في القرن العشرين، ظُلِمت كثيراً، ظلمها أصحابها مراراً، وربما أكثر مما فعل بها أعداؤها وأعداؤهم، وظلمها التاريخ المشوّه الذي يكتبه الناقمون المترعون بالأحقاد وخاصة من الشعوبيين، وظلمها الإعلام الذي لا يعي حقائق الأشياء في أعماقها بل ينظر إلى ظواهر مبسترة ويحاول أن يقدم من خلال تلك القطع المتناثرة صورة شاملة، وهذا مُحال وبعضه مُغرض.

نعم، هذه ثورة ظُلِمت كثيراً، ولعلَّ في هذه الحواشي بعض من الإنصاف، ولو بعد ستة عقود.






الثلاثاء ٧ رجــب ١٤٤٣ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٨ / شبــاط / ٢٠٢٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب مصطفى كامل نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة