شبكة ذي قار
عـاجـل










 

الأكرَم مِنّا جَميعاً

(مِن جَنين إلى البْسيتِين)

 

هو الشهيد العراقي، رمز الفداء، وعنوان العطاء، ونموذج الكبرياء. هو المنار والفنار الذي قاتل في سوح الوغى على تراب الوطن العربي، واستشهد دفاعا عن الأمة بأسرها، فارتقى إلى عليين بعد أن روى بدمائه الغالية ترابها، ليرشد الآخرين منها إلى طريق العز والشموخ والكرامة دون ذل أو هوان. هو القامة والهامة والعملاق الأشم الذي ترفع له القبعات وتنحني له الرقاب لما قدمه من تضحية وإباء في جنين والأردن وسوريا ومصر، فهي ارضه دون تمييز، حيث وحدة الأمة أمله ومآله في ذاته وروحه التي ارتقت إلى بارئها.

وإذ نستذكر وردة الشهيد المطرزة بشقائق النعمان ذات اللون الأحمر المعبر عن دمه الغالي، والتي كنا نحملها فوق صدورنا وفواح عطرها في رحيق قلوبنا، وإذ نتأمل تلك الدقائق التي كنا نصمت فيها بعد أن يوقف شرطي المرور قوافل السير، وتتوقف الحياة في المصانع والمدارس والشوارع، وتصدح الجوامع بسورة الفاتحة، وتقرع أجراس الكنائس، ذلك الذي اضحى تقليداً عراقياً خالداً في الأول من كانون الأول ديسمبر من كل عام، فإننا نستحضر قيم الشهادة للعراقيين والعرب بكل تأريخها المجيد على أرض العروبة برمتها.. وقبل أن نتذكر ونذكّر بذلك الجرم الفارسي الذي يندى له جبين الإنسانية جمعاء بما فعلوه بأبطالنا الذين وقعوا أسرى في منطقة البسيتين ابان الحرب الإيرانية العراقية، دعونا نعود قليلاً إلى أرض فلسطين الحبيبة، إلى جنين، حيث تلك الشواهد الشاخصة الخالدة في مقبرة الشهداء العراقيين الذين قاتلوا العدو الصهيوني وألحقوا به شر الهزائم.

وإذ يزور أهالي جنين الكرام تلك المقبرة في الأعياد كتقليد اعتادوا عليه ليتلوا سورة الفاتحة على قبور الشهداء، واحداً تلو الآخر، حيث أسمائهم ثبتّت على لوحات المَرمَر، يجذبهم ذلك القبر الذي كتب عليه (الشهيد مجهول الهوية)، وحينما يرفعون أيديهم لقراءة سورة الفاتحة عليه، فان لسان حالهم يحدثونه بإن أهله في العراق يعرفونه وهم بخير وأوفياء دوما لنبل تضحياته، وهو خالد في ضمائرِهم بالرغم من الجراح العميقة التي أصابتهم بعدما وطئت أرض العراق الطاهرة أقدام الغزاة الأمريكية والصفوية.

 وفي حارة قريبة من جنين، وبين شجرتي زيتون في بستان من الكروم، يتوسط ذلك الشهيد سكنه الأبديّ، شابكاً يديه على حفنةٍ من ترابِ فلسطين، فقد سقط في معارك العزّ لتحرير فلسطين، ودُفِنَ في بستان مواطن في حيّ من أحياء المدينة القديمة، وان أهل الدار والبستان والحي يعرفونه وتجري زيارته في الاعياد لقراءة الفاتحة واستذكار دور الجيش العراقي في الدفاع عن فلسطين. الجندي العراقي الشهيد ليس وحيدا هناك في أرض بستان المواطن الفلسطيني، انه وغيره من شهداء الجيش العراقي في انحاء الوطن الكبير، لازالوا في سرايا الجهاد يقاتلون، واحياء عند ربهم يرزقون.

حين ودع أهله في قريته بالعراق ذاهبا من اجل الدفاع عن الارض هناك في فلسطين، لم يشعر في قلبِه انه سيودع ارضاً عربية لأخرى تنتظره شهيدا، هذا خياره وانتسابه وهويته الجامعة بين معنى الوطن الكبير ودلالة الفداء في سبيله، انها لحظة ولادة ثانية في ارض عربية، ولادة لا يمكن الا ان تكون بداية لنهاية حتمية عنوانها التحرير. إنه الشهيد الذي جاء حاملاً بندقية في يديه، وختمً بشهادة ان لا الله الا الله ليدافع عن أرض عربية تهدد بالاغتصاب والغربة عن الجسد العربي الذي غرست في أركانه آنذاك خناجر الاحتلال والهيمنة.

وهو الشهيد الذي رقد بعد أن أدى واجبه، لازال هناك ينتظر ان يأتي بقية فصيله وحضيرته لاستكمال المهمة التي كلف بها للدفاع عن مدينة جنين العربية من الغزاة، وتحريرها.  فهو لازال يحتفظ باسمه ورتبته العسكرية منذ عام 1948، ولا يشغله أمر السنوات التي مرّت واسمه المحفور على الشاهد مازال يعلو ضريحه، ولا من سيأتي في عيد الجيش لزيارته، ولا حتى من يتذكر اين نزفت دماءه اخر مرة. هو يحمل أسماء كل العراقيين والعرب، ولا يخشى من رحيل الآخرين بعيدا عن سكنه الابدي، وهو يعرف تماما انه ليس وحيدا، ففي أرض العراق والوطن العربي كلّه جنودا مقاتلين قد يكونوا الآن في فترة استراحة مقاتل، لكن يوماً ما سيأتون ويكملون مشوار التحرير. فالله تعالى بشّرنا بذلك اليوم في قوله سبحانه..

{ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا }.

 

نعم سيأتي جند من جيشه الجرار الذي لم ينكسر يوماً ولم تثبت عليه ثلمة في سفره الوطني والقومي الخالد عبر سنيّ كفاحه المسلَّح ضد الطُغاة والغُزاة، ضد المعتدين والطامِعين بأرض العراق وارض العرب..

إنه جيش العراق.. جيش الامة العربية اينما اقتَضَت ضرورات قتاله.. سيبقى كما كان رغم الكبوة التي اصابته في صميم فؤاده عندما أمر ذلك الغريب الشرير بحل كيانه، خشية منه ورهبة، بعد أن وطئت أقدام الغزاة أرض العراق في سنة 2003م، معتقداً انه بذلك سيحطم تلك الروح الأبية، فخسأ فعله ذاك بانطلاق كوادر هذا الجيش العظيم في أعظم مقاومة شهدها العالم انتهت بهروب الغازي من العراق جاراً أذيال الهزيمة والهوان. وسيبقى جيش العراق بالرغم من كل ذلك هو المَدَدْ لكل العرب.. فعقيدته راسخة وتأريخه عريق، وتدريب مقاتليه وخبرتهم لا مثيل لها بين جيوش الأرض في عصرنا الراهن.

وهكذا هو الجمع بين معنى الجندية والعقيدة القتالية واستراتيجية القوة المعبرة عنهما، محاولة لا تبتعد عن المشهد العربي الاسلامي، بل انها تعيد انتاج معنى ذلك الزمن الذي ارتبط فيه معنى حمل رسالة الإسلام والسلام إلى شعوب الأرض، والشواهد كُثُر تقف شامخة عبر الزمن.

وعودة لشم نسيم وردة الشهيد ورحيق العطر الذي تحمله من معانٍ. فالعدو الفارسي الذي قام بالإبادة الجماعية لثلاثة آلف من أسرانا في البسيتين بيوم واحد، وبأبشع صور القتل كربط الاسرى بين سيارتين تسيران باتجاهين متعاكسين فيمزقونه أو يربطونه بحبل ويسحبونه من على الأرض بسيارة مسرعة، وغيرها من وسائل القتل والاجرام البشع التي تم توثيقها فيلماً وتصويرا، بل أنهم أخذوا يتفاخرون بهذا النمط من الجرائم، حتى أن أحدهم، وهو المجرم المدعو نادر قاضي بور واثناء الترويج لحملته الانتخابية كان يقول انه قائد مجموعة قامت بقتل أكثر من ٨٠٠ اسير عراقي في يوم واحد في البسيتين. وذلك لكسب الأصوات للترشيح لانتخابات برلمانهم المزيف.

إنهم هم وميليشياتهم الذين يتحكمون اليوم بأرضنا الحبيبة ومقدرات شعبنا الصابر المحتسب في العراق العربي. بل أن بعضهم من العملاء والخونة هم أنفسهم الذين قاتلوا مع الأعداء مدّعين عراقيتهم !! وهم الذين ساهموا في تعذيب وقتل الأسرى العراقيين، وهم أنفسهم الذين استهدفوا شباب تشرين الثائر في ثورتهم المجيدة، فأسقطوا ثمانمائة شهيد وعشرات آلاف الجرحى والمعوقين من خيرة شباب العراق، وهم أنفسهم الذين هدّموا وحطموا وهشموا وأعدموا البشر والشجر والحجر في الأنبار ونينوى وصلاح الدين وديالى.

تباً لهم بما فعلت أيديهم، وسيأتي اليوم القريب بإذن الله الذي يلقون حسابهم العسير على ايدي شعبنا الذي سينفض عنه غبار المعاناة والألم، فينتفض كالأسد الجائع ضد هذه الطغمة والشرذمة من القتلة والمجرمين والفاسدين،

فالله تعالى يمهل ولا يهمل، وهو عز وجل القائل {ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون}.

 

رحم الله شهداء العراق والأمة العربية المجيدة...

وسيبقى الشهداء نبراساً ومنهاجاً لمعنى التقدم والتحرر والثورة ضد الطغيان والعدوان..

 

 

مكتب الثقافة والإعلام القومي

1/12/2022

 

 






الاربعاء ٦ جمادي الاولى ١٤٤٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٣٠ / تشرين الثاني / ٢٠٢٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب مكتب الثقافة والإعلام القومي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة