شبكة ذي قار
عـاجـل










الديمقراطية الشعبية في نظرية حزب البعث العربي الاشتراكي

بقلم الرفيق (عامر أبو ياسر)

 

تحتل الممارسة الديمقراطية بسياقاتها القائمة في القطر العراقي موقعاً بارزاً في تجربتنا الثورية وتكتسب ملامح متميزة في مسيرة مجتمعنا الصاعد فهي إحدى الصيغ المعبرة عن أبعاد العلاقة القائمة بين قيادة الحزب والثورة وبين الجماهير الواسعة بفصائلها المختلفة، والتي تجسد جوهر العقيدة الكفاحية، وتؤكد قيمة هامة من قيم الثورة الشمولية، حيث إن نظرة حزب البعث العربي الاشتراكي  لا تعاني من أي صيغة من صيغ الانفصام أو الافتراق عن النظرة الشاملة للحياة، أو عن نظرية العمل الاشتراكية بل هي تعبر التفاصيل عنها، وهذا يستند إلى جملة حقائق ثابتة تجسدها التجربة المعاشة وتؤكدها الإنجازات المتحققة سواء على صعيد إغناء النظرية أم على مستوى التعبئة الواسعة حول الأهداف القومية.

 وتكمن الأهمية البارزة لمسيرة الديمقراطية في أنها جزء مهم من فلسفة الحزب ومن عقيدته ومن نظرته لحركة الدولة والمجتمع... وهي تحدد طبيعة العلاقة بين الطليعة الثورية والشعب المنظم، وهي ليست عملية شكلية مظهرية تهدف إلى مجرد استكمال البناء الهيكلي الرسمي والقانوني للدولة ومؤسساتها وإنما تأتي وفق صورة العلاقة المطلوبة أصلاً بين القيادة والقاعدة كي تؤدي في المحصلة إلى التفاعل والتعبئة وإلى استثمار الطاقات بما يتناسب والمهام الكبيرة المنوطة بالحركة الثورية التي تقود المسيرة بكاملها. أن تحقيق أفضل مستوى من العلاقات الديمقراطية بين الحركة الثورية وبين الجماهير، هو أن ندرك "موضوعة الديمقراطية" باعتبارها ممارسة مشروعة أولاً، ثم باعتبارها واجباً يرتبط بالفكر الثوري الذي يجد في ساحة العمل الديمقراطي فرصة عادلة للتعبير عن مضامينه ولتنفيذ برامجه وطموحاته. ومما لا شك فيه أن الشعب المنظم هو القادر على تأكيد وجوده، والديمقراطية بحد ذاتها ليست هدفاً مجرداً معزولاً عن السياق العام المطلوب لحركة الشعب باتجاه التنظيم بل هي صيغة تنظيمية خالصة وهي في الواقع ليست صيغة جامدة للتنظيم وهي صيغة حيوية متفاعلة مع الواقع معبرة عنه واصدق تعبير ولهذا فأن أحد جوانب خصوصية التجربة الديمقراطية في قطرنا وضمن إطار خصوصية تجربتنا الثورية.. إنها تعبير حيوي عن حركة الجماهير وعلاقتها بالطليعة الثورية بهدف إنجاز الانسياب المنظم للقدرات المتكافئة وإطار وضع كل مقدرة في موقعها المناسب أي في مستوى تنظيم المقدرة بالأفق الاستراتيجي ... وبقدر ما ينطوي عليه فكر حزب البعث العربي الاشتراكي من شمول ومقدرة على الإجابة عن التساؤلات والاختيارات التي تواجه حركة بناء المجتمع والإنسان فإن الممارسة الديمقراطية في إطار مسيرة الثورة في العراق هي تعبير عن وعي بتفاصيل حركة البناء والتغير وهي سلوك تربوي تعيشه الحركة الثورية وتسعى نحو تعميمه على المجتمع لأنها تدرك من خلال تحليلاتها العلمية أن النضوج المتبادل لوعي الممارسة الديمقراطية بين الحركة الثورية من جهة وبين الجماهير لن يؤدي إلا إلى تعميق العلاقة المصيرية بينهما ويعمق دور الطليعة الثورية باعتبارها قيادة مدركة لدورها وواجباتها ومسؤولياتها ...

وتحاول هذه الدراسة الوقوف على مضامين الممارسة الديمقراطية في إطار مسيرة ثورة 17-30 تموز -1968 التي استوحت ميزاتها الأساسية من خصوصية الفكر البعثي الطليعي ومن طبيعة العلاقة المتحققة بين الحزب والجماهير ومن مساحة مسيرة الديمقراطية في القطر العراقي المتلازمة من حيث الممارسة مع جوهر فكر حزب البعث العربي الاشتراكي ومع أهدافه المركزية باعتبار أن المسألة الديمقراطية كما أكد الرئيس القائد صدام حسين (رحمه الله) تفهم على أنها مسألة حياة شمولية وهي ليست واجباً فقط وإنما هي حق كذلك.

وقد استطاعت ثورة 17-30تموز -1968 أن تجسد تجسيداً خلاقاً نظرية الحزب في مسألة الديمقراطية وتنميتها بالممارسة الحية لتجعل منها مثلاً ملهماً للثورة العربية من خلال بذل الجهود الكبيرة لمد جسور الثقة بين الحزب والثورة والجماهير وإزالة انطباعاتها السلبية التي تولدت خلال العهود السابقة ذلك أن من المسائل الجوهرية في إعادة بناء الدولة هو اعتمادها على أسس ثورية وعلمية ولعل أبرز المسائل الديمقراطية معرفة أنماط الإدارة السائدة وتأثير ذلك في العملية التنموية بشكل خاص والإنتاجية بشكل عام.

فالديمقراطية تعتبر صيغ الإدارة والممارسة تتضمن الجوهر المشاركة الجماهيرية في إدارة دفة نظام الحكم وتحديد هويته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويتحقق ذلك بأنماط وأشكال قد تختلف من بلد لآخر إلا إن الممارسة الفعلية والتجسيد السليم لجوهر الديمقراطية يحقق الغرض الأساسي، وهو حق الشعب والجماهير في الاختيار الواعي، ذلك أن المفهوم الجديد العالم المعاصر وقد تبلور هذا المفهوم بشكل جديد يطلق عليه وسيلة وغاية، فهي من جهة وسيلة لأنها طريق إلى تحقيق وصيانة المكتسبات الثورية خلال مرحلة التحولات الاجتماعية بغية الوصول إلى تحقيق الأهداف الاشتراكية في القطاعات كافة، ومن جهة أخرى فإن الديمقراطية الشعبية تعتبر غاية في حد ذاتها لأنها تولي الجماهير قيادة المسيرة النضالية والديمقراطية الشعبية أسلوب حكم ثوري يتميز بخصائص معينة، ويمكن تناول أبرزها من خلال المؤشرات الآتية:

أ-إن الديمقراطية الشعبية أسلوب حكم لا يمكن تطبيقه إلا في المجتمعات التي تهدف إلى تغيير الأوضاع الاجتماعية كالتحولات الاشتراكية، لأن الديمقراطية الشعبية عملية ثورية تتجاوز الروتينية وتحقق الأهداف الموضوعية بسرعة كافية وبصورة ناجحة فهي أسلوب ثوري، والمجتمعات الاشتراكية تهدف "عادة " إلى تحقيق الصالح العام بعيداً عن المصالح الفردية الأنانية، وقد حدد التقرير السياسي الصادر عن المؤتمر القطري الثامن (كانون الثاني 1974) المرحلة التي يمر بها القطر العراقي واعتبرها مرحلة الانتقال إلى الاشتراكية، حيث جاء فيه: "وضع ما أمكن مقدمات الانتقال إلى الاشتراكية" وجسد المهمة الأساسية التي تنتظر الحزب في ميدان التحولات الاشتراكية خلال السنوات التالية، وهي استكمال مقومات ومؤسسات الديمقراطية الشعبية، وكانت المادة الأولى من الدستور الصادر عام 1970 قد نصت على أن العراق جمهورية شعبية، واعتبرت المادة الثانية منه الشعب مصدر السلطة وشرعيتها ...

ب- الديمقراطية الشعبية أسلوب مانع لأنها لا تسمح للفصائل الغريبة عن واقع الجماهير والقوى اليمنية المرتدة والرأسمالية بأن تستغل الفرصة لمناهضة مسيرة التحولات فهي شعبية لأنها خاصة بالشعب وحده.. وقد حدد هذا المنظور قانون إصلاح النظام القانوني رقم 35 لسنة 1977 حيث جاء فيه: " في ممارسة الديمقراطية سواء من حيث الحق في انتخاب المؤسسات الديمقراطية أو الحق في التمثل فيها لابد من استبعاد كل الأفراد الذي يقفون موقفاً سياسياً أو اقتصادياً أو فكرياً مناهضاً للثورة وبرامجها."

ج- في الديمقراطية الشعبية تنبثق الأجهزة والهيئات الجديدة للسلطة العامة من بين شرائح المجتمع، تضطلع بالمسؤولية في قيادة المسيرة الجماهيرية والتي تلتزم بالأهداف الاستراتيجية التي جاءت لتطبيقها ولا يقتصر أسلوب الديمقراطية الشعبية على انبثاق أجهزة الحكم السياسية، إنما يمتد نظامه ليشمل جميع المرافق العامة الحيوية في الدولة فقد أكدت التجربة على أن الأجهزة الإدارية والفنية للقطاعات الاشتراكية المنبثقة عن طريق الديمقراطية الشعبية، أعطت مردودات إيجابية فعالة، ونتائج عالية أثناء التطبيق العملي، وقد أشار إصلاح النظام القانوني إلى أن الديمقراطية الشعبية في نظر الحزب والثورة حق لكل الطبقات والفئات الاجتماعية المؤمنة بالوحدة والحرية والاشتراكية في التعبير عن رأيها والمشاركة في بناء المجتمع وقيادته.

د- في الديمقراطية الشعبية، تتفاعل القيادة مع الجماهير تفاعلاً "جدلياً" بالنظر لارتباط المصالح وتلازمها عضوياً. حيث لا تنتهي مهمة المواطن في مفهوم الديمقراطية الشعبية بمجرد الإدلاء بصوته كما هو الحال من وضع ثقته به مستمرة حيث يبقى المواطن بين المواطن وبين من وضع ثقته به مستمرة، حيث يبقى المواطن يراقب ويتجاوب بصورة مستمرة مع قيادته من خلال مبدأ النقد الذاتي كما لا يقتصر دور في هذه الحالة على بيان مواطن الخلل التي تظهر عند الممارسة بل يتعداه إلى تبيان الحلول الناجحة التي يستطيع من خلالها المساهمة في تقدم المسيرة النضالية دون تصدع.

لذا فإن التجاوب بين الفرد والقيادة أمر ضروري للمحافظة على وحدة النضال الجماهيري من أجل تحقيق الأهداف الاستراتيجية، حيث تتحمل القيادة مسؤولية المسيرة وتتحمل الجماهير المحافظة على كيانها الثوري الديمقراطي الاشتراكي وقد حدد الدستور حقوق وواجبات الفرد تجاه الدولة والتي تهدف بمجموعها إلى التلازم بينها كما حدد التقرير السياسي وقانون إصلاح النظام القانوني التلازم المصيري بين القيادة والقاعدة.

ه - إن الديمقراطية الشعبية تقتضي شعبية الإعلام، لأن للجماهير الحق بتوفير الفرص الكافية في التعبير عن نفسها عبر وسائل الإعلام وممارسة نشاطها الإعلامي عبر أجهزته بصورة يصبح بموجبها مرآة تعبر عن مضمون الثقافة، لما للثقافة الثورية من دور حاسم في تأمين الحصانة للرأي العام، ويمكن القول أن الديمقراطية الشعبية هي القاعدة العملية الأساسية التي تدلل على صواب النظرية الاشتراكية ووسيلة تقضي على بذور التخلف والتراجع، لأنها صيغة عمل تتعاضد فيها القاعدة مع القيادة بصورة متماسكة متراصة، من أجل تحقيق الأهداف الثورية. ولهذا فإنها لن تعتبرها مرحلة انتقالية تنتهي بانتهاء تنفيذ أهداف محددة، إنما تعتبرها وسيلة وغاية معينة تشترك بموجبها فصائل الثورة الوطنية والقومية التقدمية في تحمل مسؤولية قيادة المسيرة النضالية للأمة.

 

و- إن الديمقراطية كما يفهمها حزب الثورة العربية، حزب البعث العربي الاشتراكي، نظرة شمولية للحياة بكل ما يحمل هذا التعبير من مضامين فكرية خالصة ومن مفاهيم قابلة للتطبيق الحي الميداني، ولذلك عندما ينظر إلى الديمقراطية باعتبارها تعبيراً عن العلاقات الإنسانية السلبية فإنما وبالضرورة تكون أكثر عن حالة الأمة في بعثها الحضاري لأن معادلة النهوض الشاملة تبقى ناقصة ما لم يتبين من العلاقات الديمقراطية بين الثورة والشعب، وما لم تتوفر الموضوعية والنسق المطلوب لإنشاء هياكل جديدة للقيم الثورية داخل مجتمع الثورة الكفاحية.

 

ز- تتسم الديمقراطية الشعبية ببعدها الإنساني والحضاري في آن واحد، ويتمثل بعدها الإنساني فيما تهدف إليه لتحقيق الخير للإنسان (كقيمة عليا) وما تهدف إليه لتحقيق البناء الاجتماعي باعتباره الإطار الذي تنضوي فيه مجموعة القيم والمفاهيم  والاتجاهات الثورية الجديدة، ولذلك فإنه بالقدر الذي يتراكم فيه الوعي الديمقراطي أو ما يسمى بالوعي بالضرورة الديمقراطية لدى المواطن فإن ذلك يعني تراكم الوعي الديمقراطي داخل المجتمع، انتظام الفرد في العلاقة مع الأعلى والأدنى، وفي هذه الحالة تحقق المشروعية الديمقراطية داخل المجتمع والتي تهدف إلى ضمان النتائج المطلوبة لممارسة الديمقراطية في إطار حركة الثورة وأهدافها المرسومة.

 

ح- إن الديمقراطية الشعبية صيغة جديدة تحمل رفضاً للقوالب الفكرية التي أراد الاستعمار إشاعتها بين الشعوب، والتي تعبر عن منظوره الفكري، وعلى هذا فإن الديمقراطية الشعبية تنطوي على منهج فكري نابع من الفهم الموضوعي لإرادة الإنسان وحريته وفق المقاييس المرتبطة موضوعياً بالخصوصية الوطنية والقومية، وبذا تكون الديمقراطية منهجاً "آخر بعيداً" عن المنطلق الرأسمالي مثلما هو بعيد عن المنطلق الشيوعي.

 

ط- إن الديمقراطية الشعبية هي المحك الفعلي والقيادي لحركة الإنسان من أجل اختياراته وتجسيدها، وهي تعني تكامل التحرر السياسي والاقتصادي والاجتماعي مؤلفة من خلال ذلك التفاعل كلاً لا يتجزأ ضمان محتوى حرية الجماهير ومساهمتها في الإدارة والاختيار والمسؤولية، وهذه الخصائص تجعلنا نقف عند نقطة جديرة بالاهتمام وهي أن حزب البعث العربي الاشتراكي استطاع بعد أن ظلت معظم الدراسات والطروحات العربية منشغلة في إطار ضبابي حيث كانت تلك الدراسات والطروحات تنقد الرأسمالية بأفكار الماركسية وتنتقد الماركسية بأفكار الرأسمالية دون الوصول إلى صيغة أصلية ومتكاملة ومحددة الأبعاد. 




الاثنين ١٨ جمادي الاولى ١٤٤٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٢ / كانون الاول / ٢٠٢٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الرفيق عامر أبو ياسر نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة