شبكة ذي قار
عـاجـل











نحو تعزيز الوعي القومي الوحدوي

الهُويَّة الوَطنيَّة والقَوميَّة فِي مُوَاجَهةِ التَّحَدِيَات المُعَاصِرة

الجزء الأول

الهُويَّة القَوميَّة العرَبيَّة عِبر التَّارِيخ

(تعريفات ومَفاهيم)

د.محمد رحيم آل ياسين

 

 العُروبة والقوميَّة العربيَّة تُمثِّلان أكثَر الأُطروحاتِ جُذوراً وثراءً وعُمقاً، لأنَّهما يَعتمدان على عاملٍ ثقافيٍّ واسعٍ ورَحبٍ، تُغَذِّيه لُغةٌ غنِيَّةٌ بَيِّنةٌ، وتَدعَمهُ مُعاناةٌ تاريخيَّةٌ طويلةٌ.

والعُروبةُ انتماءٌ انسانيٌّ يَحكمهُ العامل الثقافي، والمُكوّن الأساسي لها هو اتِّفاقها واجتماعها على المصالح المُشتَركة. وبعدَ ذلك فالانتماءُ للعروبةِ لا يأتي من فراغٍ، أو لمُجرَّد النُطق باللسان العربي، بل الانتماءُ للعروبةِ هو تَعبيرٌ عن مَجموعةٍ من العِلاقاتِ المُرَكَّبة، الاجتماعية والتاريخية والثقافية والسياسية والجغرافية. وهذه تُشكِّل ذاكرة الانسان العربي، وتُمَثِّل مصالحه وآماله ومشاعره وحَواسِّه، وهذا الانتماء هو جزءٌ من تَطوّرٍ اجتماعيٍّ وثقافيٍّ أنتج الأُمَّة العربية منذُ زمنٍ بعيد. وهو بالتَّالي يَعتمد على الجَوامع القَومية المُشتَركة، والمُوحِّدات الكُبرى التي تَتَجاوز المَحليات، وهي بمجموعها تُشَكِّل الهُوية القَومية للإنسان العربي. فالهُويَّة القومية للعربي هي تَسميةٌ قوميةٌ، لُغويَّةٌ، ثقافيَّةٌ، جغرافيَّةٌ شاملة.

 

ما بينَ الهُوية والشَّخصية العربية

علينا أنْ لا نَخلط بينَ الهُويَّة والشخصيَّة، فالهُويَّة تُعبِّر عن ماهيَّتنا كأبناء هذه الأمة، بمعنى مَن نحنُ ؟، أمَّا الشَّخصيَّة فهي تَعبيرٌ عن سِمَاتنا. من هنا فهُويَّتنا القومية تَشمل المُعطيات التاريخية والجغرافية وغيرها، أمَّا الشَّخصية العربية فهي تَعني السِّمات الحضارية والثقافية، وفيما نراه لا يوجد هناك افتراق بين عناصر تَكوين الهُويَّة ومَلامح الشَّخصية. وإذا رجعنا الى تَعريف هُويَّتنا العربية كما نفهمها نحن: فهيَ العنوان والاسم والرُّوح التي تَجمع ابناء الامة العربية وتُشعرهم بشَّخصيَّتهم الخاصة ورسالتهم في الحياة. انَّ الهُويَّة العربية مُستَهدفةٌ اليوم أكثَر ممَّا مَضى، وهي تَتَعرَّض الى عملية تَذويب خطيرة وبشكلٍ عَلَني مُنَظَّم، تَقِف وراءها دولٌ ومؤسَّساتٌ وجِهاتٌ معاديةٌ للامة العربية. وقد أشاعوا يُساندهم أعداء الأُمَّة من المَحسوبين عليها في الداخل أنَّ الهُويِّة القومية وَهْمٌ وتَضْليلٌ! في محاولةٍ خبيثةٍ لتَشكيك ابناءها في انتِمائهم الى أُمَّتهم العربية، وبالتَّالي يَبغون خاسِئين تَفتيت الهُويَّة العربية. 

إنَّ المُراجَعات الفِكريَّة التي يجريها أيُّ باحثٍ على مَفاهيمِه أو البعض من يَقينيَّاته السابقة، والتي دَرجَ في التَعبير عنها من خلال أُطُرها النظرية ومُعطياتها الفكرية لا تُوَفِّر دائماً أجوبةً شافيةً، انْ لم تَكن مُخرَجةً بنَسقٍ تاريخيٍّ، أو حُزمةٍ من عَبَقِ الماضي القَريب والبعيد. مَصحوبةً بالوَعي، خصوصاً عندما تَكون هذه المَفاهيم واليَقينيَّات يُرادفها أزَماتٌ واشكاليَّات، كما هي اليوم قضيَّة الهُويَّة الوطنيَّة والقوميَّة التي نَجدها تَعيشُ في أصعَب ظُروفها وأحوالها، وعندما نُقَلَّب صَفحات التَّاريخ لزمنٍ بعيدٍ حيث بِدايات ولادة هذه الهُويَّة فإنَّه تَنفَتح أمامَنا مَواردٌ فكريةٌ اضافيةٌ ومُهمَّة تُجيبُ عن تَساؤلاتنا أو حتى بعضها. غير أنَّ وقائع الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في مجتمعنا العربي اليوم، تُعطينا يقيناً بل دليلاً على الحاجة الى تَجديد القراءة والتفكير في قضية الهُويَّة الوطنيَّة والقوميَّة.

 

الهُويَّة وتَعريفاتها

والهُويَّة تأتي بمعنى المَاهيَّة، أي ذلك الجوهر الثابت في الشيء الذي من خلاله وبه يَتعَيَّن ذلك الشيء ويَتَحدَّد، وبه يَتَمايَز عن غيره ويختلف، وحيث أنَّ الأمر فى الهُويَّة يَتعَلَّق بمفاهيم منطقية، وداخل نسيج ووعي تاريخي مُمَيَّز ومُمتدَّ، فهيَ لا تأخذُ تعريفاً واحداً مُتَّفقٌ عليه، بل هناك تعريفات متعدِّدة لها.

 

فالهُويَّةُ لغةً: يَشتَقّ معناها من الضمير (هُوَ)، أمَّا مصطلح الهُويَّة فهو مُركَّبٌ من تكرار (هُوَ)، حيث تَم وضعه كاسم مُعرَّف بـ(أل) ومعناه (الاتحاد بالذات)، ولغةً: الهُويَّة بضَم الهاء وكسر الواو وتَشديد الياء المفتوحة نسبة مصدرية للفظ (هُوَ)، أمَّا الهَويَّة بفتح الهاء فهي البئر البعيدة المهواة، والموضع الذي يهوي ويسقط مَن وقفَ عليه، والمرأة التي لا تزال تَهوى كما جاء عند ابن منظور في لسان العرب، ج6 ص313، وج15 ص371 مادة هَوا ...

 

واصطلاحاً: هي الحقيقة المُطلقة المُشتَملة على الحقائق اشتِمال النواة على الشجرة. وتُطلَق الهُويَّة على ثلاثة معانٍ: التَشخُّص، والشَّخص نفسه، والوجود الخارجي (نفس المصدر أعلاه).

ويُمكننا القول بأنَّ الهُويَّة هي حقيقة الشيء وصفاته التي يَتمَيَّز بها عن غيره، وتظهر بها شَخصيَّته ويُعرَف بها عند السؤال عنه، بما هو؟ أو ما هي؟ .

وتَقوم هُويَّة كلّ أُمَّة على ما تَتمَيَّز به عن غيرها من الأمم، في لغتها، وقوميَّتها، ودينها، وتراثها، وتاريخها، وحاضرها ومستقبلها المشترك. ويُشير مفهوم الهُويَّة الى ما يكون به الشيء، أيّ من حيث تَشخّصه وتَحقّقه فى ذاته، وتَميّزه عن غيره، فهو وعاء الضمير الجمعي لأي تَكتّل بشري، ومحتوى هذا الضمير، بما يَشمله من قِيَمٍ وعاداتٍ ومُقوّماتٍ تُكَيِّف وعيّ الجماعة، وارادتها في الوجود والحياة داخل نطاق الحفاظ على كيانها. وهكذا تُعبِّر الهُويَّة من حيث فلسفتها عن حقيقة الشيء المطلقة المشتملة على صفاته الجوهرية التي تُمَيِّزه عن غيره، كما تُعَبِّر عن خاصيَّة مطابقة الشيء لنفسه أو مثيله. وفي سياق فهم الهُويَّة القومية نفهم الهُويَّة الثقافية لأيِّ شعبٍ وأُمَّةٍ، والتي تَعني القَدر الثابت والجوهري المشترك من السِّمات والقَسَمات العامة التي تُمَيِّز حضارته عن غيرها من الحضارات، من هنا فإنَّنا من الصَعب أن نَتصوَّر شعباً أو أُمَّةً بدون هُويَّة.

 

فقد أثبتَت الدراسات في علم الاجتماع (السوسيولوجيا) من أنَّ  لكلِّ جماعةٍ أو أُمَّةٍ مجموعة من الخصائص والمُمَيِّزات الاجتماعية والثقافية والنفسية والتاريخية والمَعيشية المُتَماثلة التي تُعَبِّر عن كيانٍ يَنصهرُ فيه قومٌ مُنسَجمون ومُتَشابهون بتأثير هذه الخَصائص والمُمَيِّزات التي تَجمعهم، ومن خلال هذا الشُّعور القومي ذاته، يَستَمِدّ الفرد احساسه بالهُويَّة والانتماء، ويَشعر بأنَّه ليسَ مُجرَّد فرداً معزولاً لذاته، وإنَّما يَشترك مع عددٍ كبيرٍ من أفراد الجماعة في عَددٍ من المُعطَيات والمُكوِّنات والأهداف، ويَنتمي الى ثقافةٍ مُرَكَّبةٍ من جملةٍ من المَعايِّير والمواقف والأحداث التاريخية. وعندما يَنعدم شعور الفرد بهُويَّتهِ، نتيجة عوامل ذاتية وخارجية يَتوَلَّد لديه ما يمكن أن نُسَّميه بـ(أزمة الهُويَّة) التي ينتج عنها أزمة وعيٍّ تؤدي الى ضياعِ الهُويَّة نهائيَّاً فيَنتهي بذلك وجوده، من هنا فالهُوية هي حياةٌ ووجودٌ ودونها مَماتٌ وزوالٌ وفناء.

 

هل هناك أزمة هُويَّة وطنية وقومية؟

وهنا نتساءل: هل نعيشُ نحنُ كأمة أزمةَ هُويَّةٍ في هذه المَرحلة؟ أم أنَّ الهُويَّة الوطنية والقومية تُعاني من محاولاتٍ لهَدرها وتُريد زوالها؟ والحقيقة كما نَراها أنَّنا لا نُعاني أزمة هُويَّة على المستوى القومي، وإنَّما هناك أزمة هُويَّة على المستوى الوطني (المَحلِّي)، وأن هناك مُهدِّدات للهوية الوطنية، أسمَيناها بـ(معاول الهدم).

ونرى من جانبنا خطأ مَن يظن أن الانسان العربي قد حَدَّد هُويَّته وتَعرَّف عليها في العصر الحديث، مُتَأثِّراً بعلاقات الهَيمنة والسَيطرة التي فرضها التُرك وبعدهم الغرب الاستعماري، بدافع التَحرّر من هذه الهيمنة، ومِن كلِّ مظاهر الاستِبداد والاستِغلال والاضطِهاد الداخلي.

صَحيحٌ أنَّ التثقيف بالأفكار القومية شهد تركيزاً وانتشاراً هذه الفترة الزمنية، أي في نهاية القَرن التاسع عشر وبداية القَرن العشرين، ولكنَّ الهُويَّة الوطنية ومثلها القومية كانت حيثُ كانَ العرب منذ آلاف السنين، كما ان دلائل التَعبير عنها، ودراستها وتناولها فلسفياً وآيديولوجياً موجودة في الكثير من مظاهر ومجريات التاريخ القديم والوسطي، إلا أنها انتعشت بشكل متميز في العصر الحديث.

وبعد كلّ ذلك فإنَّنا نجد تَعريفاً شاملاً لمفهوم الهُويَّة بأنَّها: حقيقة الشيء أو الشخص المُطلقة المشتملة على صفاته الجوهرية، وهي أيضاً وعيٌّ للذات والمَصير التاريخي الواحد، من خلال الحَيِّز الرُّوحي والمادي الذي تَشغله في البُنيَة الاجتماعية، بفعل السِّمات والمَصالح المُشتركة التي تُحَدِّد تَوجُّهات الناس وأهدافهم لأنفسهم ولغيرهم، والتي تدفعهم للعمل معاً في تثبيت وجودهم، والمُحافظة على ما أنجَزوه عبر التاريخ، وفي تَحسين أوضاعهم ودورهم وموقعهم في التاريخ  بين الشعوب والأمم الأخرى، وهي أيضاً السِّمات المُشتَركة التي تَتَميَّز بها جماعةٌ مُعيَّنةٌ من الناسِ وتَعتَزّ بها.

 كما يُمكن أن نَطلق عليها بأنَّها مجموعِ المَفاهيمِ العَقائديةِ والتُراثيةِ لجماعةٍ ارتَبطت بتاريخٍ وأصولٍ انسانيةٍ ومفاهيمٍ فكريةٍ، أدَّت الى افرازِ سُلوكٍ فكريٍّ وقيَميٍّ تَمَّت تَرجَمَته الى أدبٍ وفَلسفاتٍ وأنمَاطٍ اجتماعيةٍ وثقافيةٍ، ذاتَ شًخصيَّةٍ مُمَيَّزة عن غيرها. وتالياً فالهُويَّة هي مجموعة السِّمات الرُّوحية والفكرية والعاطفية الخاصة التي تُمَيِّز مجتمعاً بعينه من حيثُ طَرائقِ الحياةِ ونُظُمِ القِيَمِ والتَقاليدِ والمُعتَقداتِ والحقوقِ الإنسانية.

 

الهُويَّة العربية القومية وقِدَم وجودها

وعندما نقول أنَّ الهُويَّة ليسَت وَليدة اليوم، فلأنَّنا نرى أنَّها تُشَكِّل أمراً ذاتياً وموضوعياً أو جمعيَّاً في آنٍ واحدٍ، فهيَ وعيّ الانسان واحساسه بانتمائِه الى مجتمعٍ أو أُمَّةٍ أو شعبٍ في اطارِ الانتماءِ الانساني العام، وبالتَّالي مَعرفتنا من أينَ أتَينا، وأينَ نَقِف وإلى أينَ نَمضي، وبِما نُريده لأنفسنا وللآخرين، وبمَوقعنا في خارطة العلاقات والصراعات القائمة في العالم. فهَل كانَ العربُ لا يَعرفونَ مَن هُم؟ وما هيَ مَقاصدهم فى الحياة؟، وأنَّهم ينتمونَ الى أمةٍ عظيمةٍ، تاريخها غائرٌ في القِدَم، وبأنَّهم حَمَلة أمانة الرِّسالة السَّماوية والحضارية التي استَأمنها الله تعالى بينهم وفيهم؟ وهل يمكن لمَن أسَّسُوا حضارةً عالميةً انسانيةً راقيةً، لا يَعُونَ أنَّهم أصحابُ رسالةٍ نبيلةٍ الى العالمين؟ لذلك فالهُويَّةُ العربيةِ كانت حيثُ كانَ العربُ وليسَت وليدةُ اليوم. انَّها أيّ الهُويَّة القومية العربية تُمثِّل الشعور الجَمعي لأُمَّتنا العربية بما يجعل أبناءها يَرتبطون ببعضهم ارتباطاً وجدانيَّاً، وجوديا،ً ومصيرياً.

 

هَل الهُويَّة مُطلَقة الثُبوت والبَقاء؟

إنَّ مسألة ثبوت الهُويَّة أو تَغيّرها، قد تَعرَّضَت لنقاشٍ وحوارٍ طويلان، وبالرجوع الى المراحل التاريخية التي مَرَّت بها الأُمَّة العربية، نَستطيع أنْ نقرأ فيها أنَّ التعبير عن الهُويَّة القومية قد يُصاب بفتراتٍ من الخُمولِ أو الضُعفِ، وفي أخرى يكون في غايةِ الانتِعاش والحَرارة والحماسة، لماذا؟ لأنَّ الأوضاع التي تُتيح التعبير عن الهُويَّة تَرتبط بالمؤثِّرات الخارجية، وبما يَجري في المجتمع من ثقافاتٍ وأفكارٍ وتَوجِّهاتٍ، ومنها أيضاً يَرتبط بالصِراع على السلطة من أجل مصالح ضيِّقة، ويَرى بعض المُفكّرين العرب أنُّ الهُويَّة بضَم الهاء، مُصطَلحٌ استَعمله العرب القُدامى والمسلمون الأوائل، وهو منسوبٌ الى (هُوَ) وهذه النسبة تُشير الى ما يَحمله من مَضمون .. وأغلب المعاجم العربية اتَّفَقَت على معنىً واحداً للهُويَّة وهو: أنَّها حقيقة الشيء أو الشَّخص المُطلقة المشتملة على صفاته الجوهرية والتي تُمَيِّزه عن غيره.

 

مكوّنـــــات الهُويَّة

للهُويَّة على المستوى الانساني مُكوّناتٌ تَندرج في الخصائص المُشتركة الحضارية والمُشتركات الأخرى والتي تشمل:

المَجال الجُغرافي والوطن التاريخي المُشترك، ووجود ذاكرة تاريخية مُشتركة للأمة، وثقافة شَعبية مُشتركة بين جميع فئات المجتمع، اضافة الى منظومة حقوق وواجبات مُشتركة، يَضعها المجتمع ويَلتزم بها أفراده في تَنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع والأفراد مع بعضهم، ووجود اقتصاد مُشترك بين أفراد المجتمع.

 

ويُضاف الى هذه المُكوّنات عناصر أخرى وهي:

عناصر مادية ومعنوية: وتَشمل الاسم والسكن والملابس، والقدرات العقلية والاقتصادية والتنظيمات المادية والسِّمات المورفولوجية من خلال البُنية والمظهر الخارجي والخصائص المُمَيَّزة.

 

العناصر التاريخية: وتَشتمل على الأصول والأحداث والوقائع والآثار التاريخية.

العناصر الثقافية والنفسية: وتَتضَمَّن النظام الثقافي مثل العقائد والأديان ومنظومة القِيَم وصور التَعبير الأدبي والفني والمعماري، والعناصر العقلية مثل: النظام المعرفي ومنها السِّمات النفسية الخاصة، واتِجاهات نَسَق القِيَم.

العناصر النفسية الاجتماعية: وتَشتمل على الأسس الاجتماعية مثل: السكن والمهنة، والسلطة، والدور الاجتماعي والانتماءات، والقُدرات والامكانات ونَمَط السلوك.

 

لقد مَرَّت الهُويَّة العربية بفتراتٍ من التَغيّر كالانسجام مع المُتَغيّرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية مع الابقاء على الثوابت المرتبطة باللغة والثقافة والدِّين والعادات والتقاليد كما أسلفنا. وعلى اعتبار ما سبق فقد شاركت الهُويَّة القومية العربية في منظومة الانتاج الحضاري، وبناء التراث العلمي والفلسفي والأدبي العالمي. وكان للُّغة العربية الفضل الكبير في الحفاظ على الهُويَّة القومية للامة، فكان ثبات اللغة قد نتج عنه ثباتاً للهُويَّة العربية. فكانَ مَصير الهُويَّةِ القومية مُرتَبطاً بقوَّةٍ باللغة العربية، وكان لكتاب الله العزيز الدور المِفصلي في الحفاظ على هذه اللغة، وتالياً الحفاظ على الهُويَّة العربية. من هنا وجدنا أعداء الأمة من صهاينة وفرس وأمريكان وغربيين يَستهدفون اللغة العربية بمَعاول الهَدم المُتعدِّدة، لأنَّها لغةٌ عالميةٌ، وحضاريةٌ وانسانية، وهي ليست لُغة نُطقٍ ولسانٍ، بل هي لُغةُ عبادةٍ أيضاً، يَتَحدَّث بها ويحمل ثقافتها أكثر من أربعمائة مليون عربي، ومليار مسلم في العالم، لذلك فالحفاظ على اللغة العربية يَعني الحفاظ على الهُويَّة القومية كما سنبحث في ذلك لاحقاً.

وبعد ذلك فإنَّ مفهوم الهُويَّة، لهُ أبعادٌ شائكةٌ ومُتَداخلةٌ تَتصِّل بالجَوانب الفلسفية والمَعرفية والسياسية والتاريخية، اضافةً الى عواملٍ أخرى لها علاقة فاعلة مع الهُويَّة وهي: اللغة، والتراث، والدين، والعادات والتقاليد. وهذه العوامل ليست مُتَحرّكة أو مُتَغيِّرة، خاصةً اللغة والتراث، أما المجالات الفكرية والمعرفية والسياسية فهي خاضعة للتَغيِّير.

 

الخلاصة

تَعيش الهُويَّة الوطنية والقومية في أصعب ظروفها وأحوالها في هذه المرحلة من حياة الأُمَّة العربية، ولأهميَّة ودور الهُويَّة في الحفاظ على حياة ووجود الأمَّة، فقد وجدنا أنَّه من الضروري تَجديد القراءة والتفكير في قضية الهُويَّة الوطنية والهُويَّة القومية.

وقد كان للهُويَّة مَعانٍ ومفاهيم كثُر، غير أنَّنا وجَدنا تعريفاً شاملاً لمفهوم الهُويَّة وهو: أنَّها حقيقة الشيء أو الشخص المطلقة والمشتملة على صفاته الجوهرية. وهي أيضاً وعيٌّ للذات والمصير التاريخي الواحد، من خلال الحَيِّز الرُّوحي والمادي الذي تشغله في البُنية الاجتماعية، وبفعل السِّمات والمصالح المشتركة التي تُحدِّد تَوجّهات الناس وأهدافهم، والتي تدفعهم للعمل معاً في تثبيت وجودهم، والمحافظة على ما أنجزوه عبر التاريخ. وهي بالتالي مجموع المفاهيم العقائدية والتراثية لجماعة ارتبطت بتاريخٍ وأصولٍ انسانيةٍ ومفاهيمٍ فكريةٍ أدَّت الى افرازِ سلوكٍ فكريٍّ وقيَميٍّ تَمَّت تَرجمته الى أدبٍ وفلسفاتٍ وأنماطٍ اجتماعيةٍ وثقافيةٍ، ذاتَ شخصيةٍ مُمَيَّزةٍ عن غيرها. وتالياً فالهُويَّة هي مجموعة السِّمات الرُّوحية والفكرية والعاطفية الخاصة التي تُميِّز مجتمعاً بعَينه، في طَرائق الحَياة ونُظُم القيَم والتَقاليد والمُعتَقدات.

ويُخطئ مَن يظنّ أنَّ مفهوم الهُويَّة القومية قد عرفه العرب حديثاً، وتحديداً في نهاية العهد العثماني وبداية الاستعمار الغربي، والحقيقة أنَّ الهُويَّة كانت عندما كان الوجود العربي منذ آلاف السنين، وقد انتعش الإفصاح عنها بشكل واسع ونشيط وكذا التعمُق في المفاهيم الفكرية والفلسفية والاجتماعية للهُويَّة القومية في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، كما ان الأفكار القومية تطورت الى مستوى متقدم لتأخذ بعداً نضالياً وعقائدياً من اجل تمكين الأمة من مواجهة تحدياتها، وفي مقدمتها الفكر القومي لحزب البعث العربي الاشتراكي في بداية أربعينيات القرن الماضي.


يتبع لطفاً.....






الثلاثاء ٤ جمادي الثانية ١٤٤٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٧ / كانون الاول / ٢٠٢٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د.محمد رحيم آل ياسين نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة