شبكة ذي قار
عـاجـل










 

نحوَ استراتيجيّة لتَعزيز الوَعي القومِي الوحدَوي لدى الأجيالِ الصاعِدة

(راهِنيّة العرُوبَة والاستِهدافات الداخلّيةِ والخَارجيّة) *

 

تواجه الأمة العربية في كافة مناحي الحياة، استهدافاً متوحشا عبر عن نفسِه بفرض تحديات غير مسبوقة، تهدف كلها الى ضرب ومحو الأمة من الوجود وطمس هويتها وحضارتها. لذا تواجه حركة النضال القومي العربي عقبات ومصاعب وتحديات متزايدة منذ أكثر من ربع قرن، منها تحدي الديمقراطية والانفتاح السياسي، والاستهداف الأمريكي والدول الإقليمية المجاورة للوطن العربي، وتحدي وجود القواعد الأجنبية فيه. وفيما يلي موجزاً لأهم هذه التحديات.

 

المحور الأول

راهنيّة العرُوبَة وتحدّي الدِّيمُقْراطِيَّة والانفتاح السِّياسِيّ

الدكتور عبده شحيتلي

 

العروبة قبل أي شيء آخر، هي الفكرة التي بُني عليها مشروع النهضة العربية الحديثة والمعاصرة؛ فهي الرابطةِ القوميةِ الجامعة التي تتجاوز مختلف الروابط الاجتماعية الأخرى القبلية، والعشائرية، والعائلية والطائفية، والمذهبية، وما شاكَلَها. هذه الرابطة لم يخترعها المفكرون لأنها حقيقة تاريخية ترجعُ في بداياتِ تكونها الى ما يقارب الألف عام قبل الإسلام كما تؤكد الدراسات الأكاديمية الرصينة للتكوين التاريخي للآمة العربية.

* من وقائع الندوة الحوارية لمكتب الدراسات والنشر في حزب طليعة لبنان العربي الاشتراكي، 2022.

إن مشروع نهضة الأمة العربية مثلما شَكّلَ الهمّ الأساسي لمفكريها ومثقفيها منذ القرن التاسع عشر، فإن استهداف هذا المشروع كان مَحَط اهتمام الطامعين بمقدراتها الطبيعية والبشرية. لكن رغم نجاح أعداء الأمة في تجزئتها الى اقطار، ومنعها من التَجَسُّد في دولةٍ واحدة، إلا أن العروبة التي حملَ لواءَها البعث والناصرية، وعدد كبير من المفكرين والمتنورين الذين لم ينتظِموا في حركاتٍ سياسية، في مصر والمشرق العربي، خاصة، استطاعت بناء الدولة الوطنية المُنفَتِحة على التطوّرِ باتجاه تحقيق مشروع التوحد العربي.

استقطبت فكرة العروبة تأييد الشارع، وحازَ العروبيون على ثقةِ الناس وتمثيلهم في النقابات، والمجالسِ المحلية، ومجالس النواب حيث كانت تجري الانتخابات.  واستمالت هذه الفكرة المنتسبين الى المؤسسات الأمنية والعسكرية من مختلف الرتب؛ كل ذلك أتاح لهم تولي السلطة في مصر وما لها من نفوذ في المغرب العربي خاصة ليبيا والسودان، والعراق وسوريا وما لهما من نفوذ في المشرق العربي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وتحقيق انجازات كبيرة على مستوى بناء الدولة والتنمية الاجتماعية والاقتصادية، وكان المدخل الى تحقيق هذه الانجازات القراران التاريخيان: تأميم قناة السويس عام 1956، وتأميم النفط العراقي عام 1972.

كانت التحديات هائلة على المستويين الداخلي فيما يتعلق بتطوير التعليم وتعميمه، وشق الطرقات، ومد شبكات الكهرباء للوصول الى الأرياف، وتطوير البنى التحتية، واستخراج الثروات الطبيعية، وتطوير البنى الاقتصادية. . .، ترافق ذلك مع تحدي مواجهة العدو الصهيوني الذي تطلب اهتماماً خاصاً بالمؤسسة العسكرية عدداً وتسليحاً وتدريباً؛ كل ذلك كان يقتضي تعزيز الاتجاه الوحدوي العربي للنجاح في مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية داخلياً، ومواجهة الاستهداف الإمبريالي والصهيوني خارجياً.  بهذا المعنى كان الربط بين الصراع الاجتماعي والصراع القومي حتميّا في معركة النهوض القومي.  وإذا كان الاتجاه القومي قد سار في الاتجاه الصحيح عندما نجح بتحقيق وحدة مصر وسوريا، فأن التآمر الذي ادى الى فشل هذه الوحدة وبروز الصراع الذي نشأ بين جناحي تيار العروبة أولاً، ثم تداعيات الانفصال على الواقع التنظيمي للبعث والحياة السياسية في سوريا أسّسا لتراجع المد القومي، وخلق واقع سياسي جديد باتت التربة فيه مهيأة لينبت فيها زرع الحركات السياسية الدينية الذي يتناسب نموه طرداً مع حالات الإحباط واليأس على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي والرعاية الأجنبية، وعكسياً مع نمو الاتجاه القومي.

حلت الساداتية المتحالفة مع الاصولية الإسلامية في مصر مكان الفكر القومي للناصرية، فكان كامب ديفيد رديفاً ليس فقط لعزل مصر عن امتها العربية وعن دورها في الدفاع عن القضية الفلسطينية وحسب، وانما لتراجع التنمية الداخلية، وضرب القطاع العام، وتراجع الدخل الوطني، وتزايد المديونية في مصر.  وحلت العسكرة وشهوة السلطة مكان العقائدية التي ضحت بالتنظيم من أجل الوحدة مع مصر، فجرى استحضار المكونات المذهبية لحماية المتسلقين الى السلطة على حساب التنظيم وقيادته التاريخية واهدافه الوطنية والقومية في سوريا.

ظل العراق وحده يصارع بكفاءة عالية من اجل المشروع القومي. وبعد صمود أسطوري في الحرب ومواجهة الحصار، كانت المواجهة المباشرة مع أكبر عدوان تتعرض له دولة واحتلال سافر خارج اي مسوغ قانوني او شرعية دولية. ولا نغالي إن قلنا إن العدوان الإمبريالي على العراق كان رداً في الوقت المناسب للقوى الاستعمارية على قرار تأميم النفط، مثلما كان عدوان 1967 رداً على تأميم قناة السويس.  في هذا العدوان برز بشكل سافر تحالف الحركات السياسية الدينية ورعاتها في الإقليم مع قوى الإمبريالية والعدوان.

كان الاحتضان الإقليمي والدولي لما يسمى "بالصحوة الإسلامية" مدخلاً للهيمنة والاستتباع السياسي، وتمزيق النسيج الاجتماعي في المجتمع العربي عامة، والمشرق العربي بشكل خاص تمهيداً للتقسيم، كما كانت غطاءً للفساد الغير مسبوق ونهب الموارد الوطنية، وفشل ذريع في ابسط جوانب التنمية والرعاية الاجتماعية وحقوق الانسان. وقد بات واضحاً للعيان أن الحركات الدينية السياسية كانت حصان طروادة، المصنَّع من أخشاب محلية ولكنه يحمل في جوفه كل ما يحتاجه الأعداء لتمزيق النسيج الاجتماعي للأمة العربية بداعي الهيمنة والاستغلال.

وبعد أن انكشف هذا الدور، وبات واضحاً للعيان، حدث التحول في الوعي الشعبي العربي عامة ووعي الشباب بشكل خاص، والتعبيرات العملية التي تؤكد ما نذهب اليه تتمثل في الحراك الشبابي الذي ملأ الساحات في العواصم العربية وكان صوته عالياً في المطالبة بالديمقراطية والدولة المدنية، وفي التراجع الكبير للحركات السياسية الدينية من حيث التمثيل الشعبي في العديد من البلدان التي تجري فيها انتخابات برلمانية.

انطلاقاً من كل ذلك نرى أن المدى مفتوح راهناً للعروبة الديمقراطية، التي تعيد طرح مشروعها المستقبلي انطلاقا من مراجعة نقدية للتجربة السابقة أولا، ووضوح المشروع بخطواتِه واهدافِه، بعيداً عن الاختلاق والادعاء والمحاباة ثانياً. وفي هذا الإطار ترتبط راهنية العروبة بتحقيق الشروط التي تُلبّي تحدي الديمقراطية من جهة والانفتاح السياسي والإنساني من جهة أخرى.

إن العروبة بوصفها مشروعاً نهضوياً يحمل لواء الحداثة والتنوير والتنمية ينبغي ان تُجّسِّد لواء الحرية الذي رفعته، باعتباره المدخل الأساس لوحدة المجتمع، وتجسيد وحدة الأمة في اقطار تتكامل فيما بينها بإرادة ابناء الامة الحرة، وتبني مشاريع التقدم والتنمية على قاعدة العدالة الاجتماعية.

آن للعروبة أن تحدد مرتكزات المشروع الديمقراطي الذي تحملَه لمجتمعاتِها على صعيد مؤسسات المجتمع المدني وأبرزها الأحزاب، وكذلك على صعيد النظام السياسي.  والأمر هنا لا يتعلق بالشعارات التي طالما كانت جميلة وبراقة، بل بالفكر الذي يترجم حقوقاً يحميها القانون، والممارسة التي طالما كانت في مكان آخر في العديد من الاقطار العربية.

إن النظام الديمقراطي الأفضل هو الذي يحمي استقرار المجتمع والحريات فيه، ويفتح الباب واسعاً لتفتح إمكانيات الناس وقدرتهم على الإبداع، والشعور بالكرامة الإنسانية الذي تتأسس عليه المواطنية والوطنية في الآن نفسه؛ لذلك لا يمكن استيراد هذا النظام وصيغه من الخارج، وكذلك لا يمكن فرضه بقوة العدوان والسيطرة الاستعمارية التي تزعم تبني الديمقراطية. 

فالديمقراطية ليست مجرد صندوق انتخاب تأتي به صواريخ الكروز أو الطائرات المسيرة، للشعوب.  ولا هي منة من أجهزة سلطوية تمنع حرية الرأي والتعبير، وتغتال وتزج المخالفين بالرأي أو القادرين على التأثير بالناس وتهديد استمرار الحاكم بالسلطة، في السجون، ولكنها تمنح الناس حق وضع ورقة في الصندوق دون القدرة على الوصول الى تداول فعلي للسلطة.  ولا ديمقراطية في نظام تكرِّس اجهزته الأمنية جهودها لحماية النظام وليس حماية أمن المجتمع واستقراره، وتقديس الكرامة الإنسانية.

لا شك بأن الميزة الأساس للنظام الديمقراطي هي المشروعية الشعبية التي لا يمكن أن تستمد بوسيلة أخرى غير العملية الانتخابية.  لقد سادت في الحياة السياسية في الحقبة التي تأسست فيها الدولة الوطنية فكرة المشروعية الثورية، ولكن هذه المشروعية التي يمكن أن تكون موضع رضى وقبول شعبي في مرحلة انتقالية تمر بها المجتمعات والدول، ستفقد كل مصداقية لها ان فرضَت نفسَها الى الأبد، وستصبح الأنظمة التي لا تستند في مشروعيتها إلا لثورية طروحاتها، عُرضَة للطعن بشرعيتِها الشعبية ويصعب عليها تبرير استئثارها بالسلطة إن لم تُهَيّء الظروف الموضوعية لتجاوز المرحلة الانتقالية وبكل جديّة.

إضافة الى ذلك لا يمكن أن تستقيم الديمقراطية إذا لم تكن الحرية حقاً للفرد والجماعات يحميه القانون، والقانون تحميه المؤسسات الأمنية النظامية التابعة الى مؤسسات الدولة المعروفة في دول العالم، ووضع حد لوجود السلاح خارج الدولة وبشكل حاسم. كما ويتطلب ذلك قيام السلطة القضائية بكامل دورها بعيدا عن تدخل السلطتين التشريعية والتنفيذية في عملها.  القضاء المستقل، في مجتمع تتمتع كليات الحقوق فيه بالمستوى المتميز في تخريج القضاة والمحامين والمشرعين، هو ما يشكِّل الضمانة لاستقرار المجتمع وحمايته، والأجهزة الأمنية مهما كانت درجة التزامها الوطني ينبغي ان تخضع للسلطة القضائية، لأن عملها خارج إطار أصول المحاكمات التي يضبطها القانون يفتح الباب واسعاً لأشكال متعددة من الظلم والفساد.  كذلك لا يمكن لمن يتولى موقعاً في السلطتين التنفيذية أو التشريعية، في النظام الديمقراطي، أن يكون فوق القانون والسلطة القضائية.

إن هذه المرتكزات قابلة للتكييف مع واقع المجتمعات ودرجة تطورها بحيث يكون التشريع سواء فيما يتعلق بقانون الانتخاب، او بصلاحية السلطات، وتطوير القوانين لتواكب التحول نحو مجتمع مدني مرتكزاً الى احترام حرية الإنسان وكرامته في إطار العدالة الاجتماعية.  ذلك هو التحدي الذي ينبغي أن تتصدى له الأحزاب وقوى المجتمع المدني في سعيها للوصول الى النظام الديمقراطي المتناسب مع مستوى التطور الاجتماعي، بعيدا عن استسهال استيراد الصيغ الجاهزة دون التأكد من توافقها مع الواقع الاجتماعي.

تسعى الحركات الدينية السياسية، باعتبارها أحزاباً سياسية، للوصول إلى السلطة، وواقعنا الاجتماعي يتيح لها الفرصة للوصول بسهولة الى فئات اجتماعية واسعة، ومن مختلف الأعمار، لأن  كادرها السياسي الذي يؤدي مهام دينية ترتبط بالطقوس التي يمارسها الناس يومياً، وبالمناسبات الاجتماعية حيث تتاح لهم المنابر ويؤثر منطقهم الخطابي النصي، المستند في كثير من الاحيان الى روايات مزعومة وغير مُسنَدة، فيختلط الديني بالسياسي وتغدو الطريق شاقة وطويلة قبل امتلاك الأفراد لوعي نقدي وثقافة عميقة تتيح لهم بناء رأي عقلاني حرّ،  وامتلاك القدرة على ممارسة حقهم في خيارات منطقية وسليمة تتعلق بالشأن العام ومصالحهم الحقيقية.  لذلك بدت الخيارات الحداثية التنويرية القائمة على العقل، والمتعلقة بالشأن العام، نخبوية، وعليها أن تبذل جهوداً شاقة لاجتذاب التيارات الجماهيرية باتجاهات نهضوية تقدمية.

لذلك يقتضي الالتزام بفكرة العروبة راهناً والجرأة في المواجهة على قاعدة الخطاب العقلاني الذي يتبنى العلمنة السياسية والدستورية التي تقوم على حماية كل الحريات، ومن بينها الحرية الدينية ليكون الأفراد أحرار في خياراتهم، وممارسة طقوسهم الدينية.  فالعروبة كمشروع نهضة وخيار سياسي لا شأن لها بخيارات الأفراد الدينية، وليس فيها ما يناقض الاديان او يدعو للصدام مع عقائدها وممارساتها، وساحة النضال بين الجماهير ينبغي ان تكون مفتوحة للجميع في إطار السلم والاستقرار والحرية.

إن خطاب العروبة بما هو خطاب تحدّ نهضوي في الداخل، يواجه القوى التي تشد المجتمع نحو الماضي وتمنع سيره التقدمي الى الأمام، مثلما يواجه الخارج الاستعماري – الصهيوني وأطماع الدول الاقليمية، لابد له من العمل على بناء اوسع جبهة متراصة تحكمها عقلية التوحد على اساس المشروع. 

في هذا الإطار ينبغي بذل كل الجهود وتقديم ما يقتضي من تضحيات للتوافق على هذا المشروع.  وراهنية العروبة تتوقف على طرح هذا المشروع الذي بات حاجة ملحة الآن في ظل تطور الوعي الجماهيري الذي تشهده الساحة العربية.






الثلاثاء ٢٣ رجــب ١٤٤٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٤ / شبــاط / ٢٠٢٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الدكتور عبده شحيتلي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة