شبكة ذي قار
عـاجـل










ولد العراق من رحم هذه الامة، وكان ابنا بارا لها بجميع المقاييس والحسابات. لم يتنكر لها يوما، ولم يتنصل عن أداء واجبه تجاهها، ولم يبرر أو يتخفى تحت حجج كي لا يقوم بما يمليه عليه هذا الانتماء. كان أبناؤه عروبيين وقوميين حتى النخاع، بل لهم الحق في أن يفاخروا بتطرفهم القومي والعروبي وهم الذين ضربوا مثلا أعلى في هذا الشعور لم يسبقهم اليه أحد، حينما قبلوا أن يعتلي عرش مملكتهم ملك عربي عند تأسيس الدولة العراقية، وان يأتي ذلك الملك بكل مستشاريه العرب ويتسنموا مناصب عليا في الدولة العراقية ابان فترة التأسيس، ويضعوا القوانين والمناهج الدراسية وينظموا شؤون البلاد دون أي اعتراض من أهل العراق، وقد بقيت الدولة العراقية في مختلف عصورها السياسية تسير وفق تلك الانظمة وتفاخر بما قامت به تلك النخبة، ثم استمر حال العربي معززا مكرما في وطنه العراق يتبوأ مناصب سيادية فيه ويشغل مواقع متقدمة في دوائر صنع القرار السياسي والاقتصادي، ويمثل الوطن بصفة سفراء لدى الدول الاخرى وفي المنظمات الاقليمية والدولية في سابقة قل نظيرها في العلاقات الدولية حتى العام 2003 حين حصول الغزو.


أما جيشه فقد ضرب مثلا في الالتزام القومي بقضايا الامة ما لا يستطيع احد أن يدانيه في ذلك بعد أن تم تأسيسه على هذا الاساس وهو الدفاع عن مصالح الامة أولا، فكانت عقيدته العسكرية عقيدة قومية تنظر الى ساحة الوطن العربي على أنها ميدان فعله العسكري الدفاعي وأن مؤسساته العسكرية والاكاديمية هي في خدمة الامة جمعاء، فكان أن أنخرط فيها للدراسة والتطوير عدد كبير من أبناء الامة، تولى العراق رعايتهم فتخرجوا بصفة ضباط تولوا مناصب عليا في دولهم، بل أن بعضهم وصل الى مواقع متقدمة في تلك الدول وأصبحوا رؤساء فيها. أما معاركه الدفاعية عن الامة فيكفيه فخرا أنه لم يدع معركة خاضتها الامة الا وكان رأس الرمح فيها، حتى عندما كان الحكام العرب يحجبون المعلومات عنه ويسمع باندلاعها من وكالات الانباء كما حصل في حرب تشرين في العام 1973، فكان أن سميت باسمه مقابر في عدد من الدول العربية ضمت رفات جنوده وضباطه الذين استشهدوا دفاعا عن الارض والعرض العربي، لتبقى شاهدا على مآثره البطولية وقومية نهجه. ومع كل ذلك أصبح العراق في نظر الانظمة العربية عامة والقيادة السعودية خاصة أصغر من لبنان في الدور السياسي والموقع الاستراتيجي، الذي تنادى العرب وجامعتهم العربية العتيدة للتقاطر عليه زرافات ووحدانا في كل حدث يلم به، فكان له (الطائف) الذي جمع فرقاءهم على مائدة واحدة، وكان له اتفاق (الدوحة) الذي ساعد في حل المعضلة السياسية وتشكيل الحكومة فيه، وكان له مبادرة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله الاخيرة التي أقنع فيها الرئيس بشار الاسد لمرافقته في زيارة بيروت للضغط على الحلفاء والاصدقاء لتهدئة الخلافات، بل كان له أكثر من كل ذلك وهو الجهد السياسي الذي حافظ على لبنان كبلد عربي، وحفظه من الاختطاف على يد القوى الاقليمية، وجهد مالي أكبر ساهم في اعادة اعماره والنهوض ببناه التحية من بين ركام الدمار والخراب. كما لا يمكن أن ننسى الدور العربي عامة والسعودي خاصة في أزمة الكويت في العام 1990 1991 وهي القطر العربي الذي تبلغ مساحته بعدد كيلومترات أصغر محافظة عراقية، وكيف تناست القيادة السعودية حتى خلافاتها التاريخية القبلية مع قبيلة آل صباح، ووضعت كل جهدها السياسي والمالي والاقتصادي والاعلامي والاستخباري والعسكري للدفاع عن الكويت واعادة الوضع فيها الى ما قبل 2 اب 1990، بل أوغلت في هذا الجهد بما يكون له أكبر الاثر في المساهمة في الاصطفاف العدواني الذي قادته الولايات المتحدة الامريكية ضد العراق، وبما يحقق أكبر الخسائر في الجانب العراقي وأكبر تحطيم ممكن للقدرات العراقية. أما اذا تحدثنا عن الاطار الاسلامي فللمملكة دور مشهود في ذلك سياسيا وماليا، فقد أطفأت العديد من الحرائق السياسية في دول اسلامية كثيرة، وساهمت دبلوماسيتها باستتباب الامن فيها، بل أن المملكة بسطت يدها حتى الى الذين لدغوا يدها مرات عديدة كايران، ولاحظنا كيف أن اللهجة السعودية كانت دائما تصالحية مع القادة الايرانيين، وهم يعلمون جيدا منهجهم وتأثيرهم في المحيطين العربي والاسلامي. وفي الجهد المالي فان للمملكة دورا مشهودا في ذلك، غطى مساحة واسعة من الدول التي واجهت كوارث طبيعية أو بشرية، كان آخرها الحملة التي أطلقها جلالة الملك لدعم الشعب الباكستاني في مواجهة كارثة الفيضانات.


أما العراق وبكل حجمه السياسي، ودوره الاستراتيجي في التوازن الاقليمي والدولي، وثرواته البشرية والطبيعية، وعمقه الحضاري، وروابط النسب بين قبائله والقبائل السعودية وشرايين دم أبنائه المرتبطة بشرايين أبناء نجد والحجاز وكل مدن المملكة، وبكل مأساته التي تتناسل يوما بعد يوم فتخلف مزيدا من الشهداء واليتامى والارامل والمهجرين والمهاجرين، ومزيدا من الدمار والتخريب في ظل تحكم اللصوص والقتلة والطائفيين، فان كل دور المملكة في رفع هذه المعاناة كان بضعة ملايين من الدولارات تبرعت بها الى اللاجئين العراقيين في سورية والاردن، وهي أقل من أصغر مساعدة سعودية لقرية في اندونيسيا، وهي التي فتحت كل حدودها وفنادقها ومجمعاتها السكنية لاستقبال اخواننا الكويتيين مجانا أثناء أحداث 1990، بينما تضع السواتر والاسلاك الشائكة على طول الحدود العراقية السعودية اليوم بحجة منع الارهابيين من التسلل الى العراق، كما أنها تغل يدها عن أي فعل سياسي يمكن أن يحلحل الوضع العراقي ويوقد بارقة أمل فيه وهي لها ما لها من موقع دولي واقليمي وعربي فاعل، بينما يتنامى الدور التركي فيه يوما بعد يوم، ويتغول الدور الايراني فيه ساعة بعد ساعة بقنصليات غطت محافظات عراقية كثيرة، ومنظمات مجتمع مدني ومنظمات انسانية ومدارس دينية وأحزاب سياسية، كلها واجهات استخبارية ايرانية عمقت القول الفصل لايران في الملف العراقي، واذا كان يحسب للمملكة اصرارها على عدم الاعتراف بحكومة المالكي وعدم فتح سفارة لها في بغداد وهو أضعف الايمان، فان هذا الفعل لا يرقى الى دورها المشهود في دعم المقاتلين الافغان في أفغانستان ماديا وسياسيا وتحرير البلد من القوات الغازية، بينما تدير ظــــهرها الى المقاومة الوطنية العراقية المسلحة وغير المسلحة، وتمنع حتى وصول التبرعات من أشقائهم السعوديين اليهم، كي يواصلوا فعلهم في الجهاد وتستمر الحياة لابنائهم وعوائلهم التي صعب عليهم الحصول حتى على قوة يومهم، مما يلقي كثيرا من الشك على الموقــــف السعودي الذي لا يمكن تفسيره الا أنه التزام تام بانجاح المشروع الامريكي في العراق، لكن ما لا يمكن تفسيره هو هل أن القيادة السعودية ستبقى ملتزمة بالمنهج الامريكي وهي ترى بوضوح نتائجه الكارثية على أرض الواقع؟


يقينا ان من حق المملكة أن تذهب الى الجانب الذي يؤمن لها مصالحها الاستراتيجية، لكن هذا الحق يجب أن لا يتعارض مع دورها في الحفاظ على الامة العربية التي هي احد أعمدة خيمتها ان لم تكن العمود الرئيسي فيها، والعراق هو أحد الاقطار التي تستظل بهذه الخيمة، كما أنها وتد رئيسي في الخيمة الاسلامية، والعراق كذلك أحد المستظلين بهذه الخيمة، مما يفرض على المملكة الموازنة بين كل هذه الادوار التي تلعبها، وأن لا يكون العامل القطري متقدما على غيره، مما يفرض عليها اعادة حساباتها خاصة في الظروف الراهنة التي تشهد هروبا أمريكيا من الورطة العراقية، بينما تتربص الافاعي لاخذ الدور الامريكي والهيمنة على العراق، الذي ستكون له تداعيات حتى على الواقع السعودي.


لقد سبق واستقبلت السعودية المرحوم محمد باقر الحكيم وحاشيته، واحتضنت أياد علاوي وحاشيته، وغيرهم ممن كانوا في (المعارضة العراقية) وقدمت لهم المال والجهد السياسي والاعلامي وأنشأت لهم اذاعة خاصة بهم، وكان نشاطهم ضد قيادة شرعية عراقية عربية كانت يدها بيدهم في يوم ما قبل العام 1990 وكانت لهم معها علاقات مميزة، اذن اليس من الاجدر أن تقدم المملكة دعما أكبر الى من يقاتلون الاحتلال الاجنبي، ويسعون لازالة الطغمة الفاسدة التي تتحكم بالعراق اليوم، وهي تعلم جيدا بأنهم الوحيدون القادرون على قطع رأس الافعى التي تحاول أن يكون لها موقع متقدم على الحدود السعودية العراقية في حالة ابتلاع العراق لا سمح الله؟ ان من حق شعب العراق العربي أن يسأل خادم الحرمين الشريفين، لماذا وضعت المملكة كل امكاناتها وحشدت جهود العرب جميعا لتسويق المبادرة السلمية الى أسرائيل، وضغطت كي تجعل منها مبادرة عربية ورفضت التخلي عنها، وهي موجهة الى من يقتلون أهلنا ويغتصبون أرضنا منذ أكثر من 60 عاما، بينما تصرخ نساء العراق يوميا وامعتصماه طلبا للعون ورفع الحيف والظلم ولا تتحرك السعودية تحركا فاعلا يعيد الحق الى أهله؟ اليس السلم في العراق ومساعدته للنهوض من جديد لممارسة دوره الفاعل، يساعد في نجاح الجهود السعودية التي تبذل على أكثر من صعيد للخروج بالعالم العربي من بؤرة التوترات، أم أن مرض الزعامة الواحدة والقيادة المنفردة، يجب أن يبقى يتحكم في أفعالنا الى النهاية، فتضغط هواجسها علينا لنختار موقع المتفرج على مأساة أشقائنا؟

 

 





الاثنين١٣ رمضان ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٣ / أب / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. مثنى عبد الله نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة