شبكة ذي قار
عـاجـل










ثمة درسٌ ها نحن نتعلمه: قد يمكنك أن تهزم أعتى قوة في العالم، إلا أنك لن تكسب المعركة إلا عندما تنتصر على نفسك. فإن لم تفعل، عادت دواليب الهزيمة لتدور بدوائرها عليك.


لقد حققت المقاومة العراقية ما مرّغ بالوحل أنف أعتى قوة في العالم. فمنذ عامين على الأقل، كان لا شيء أجلى من أننا دفعنا الولايات المتحدة لتقف على حافة انتحار اقتصادي شامل.


هذا البعبع الجبار ظل يستطيع أن يقتل ويدمر ويعذب ويغتصب إلا أنه كان ينزف. دمه الأخضر اللزج كان ينضح من مكان: من بنوكه التي تعلن إفلاسها، الى شركاته العملاقة التي تنهار، الى عشرات الآلاف من جنوده الذين خرجوا من أرض المعركة قتلى أو معاقين أو مجانين.


وعلى الرغم من مئات المليارات التي ما يزال يطبعها (من دون رصيد) لإنقاذ اقتصاده المتهاوي، فان الكارثة ما تزال قائمة. وما يزال هذا الوحش ينزف. وما يزال من الممكن إتمامُ دفعه الى الهاوية. وهو يبدو في الطريق اليها إن لم يكن بقوةٍ من عزائمنا، فبقوةٍ من عند ذي العزم المكين.


معركتنا لم تكن تدور في شوارع بغداد أو البصرة أو الموصل أو الديوانية أو الرمادي وحدها. لقد كانت تدور في نيويورك أيضا. وسواء قرأ المقاومون ما تفعل مقاومتهم في حسابات بنك الاحتياط الفيدرالي أم لم يقرأوا، فإن جبل الديون الذي اخترق السقف بأكثر من 12 تريليون دولار والعجز التجاري الجاري الذي شق زيق بن برنانكي بأكثر من 1200 مليار دولار في العام الماضي وحده، كان يقول إن الهزيمة التي أعدتها المقاومة، ثأرت لمئات الآلاف من الضحايا الذين سقطوا على أرض المعركة، ومرغت أنف الغزاة بالوحل.


فآثروا الإنسحاب، تخفيفا للخسائر.
إلا أننا لم ننتصر.
بقيت مقاومتنا، بدورها، تنزف.


معركةٌ شرسةٌ كهذه التي نخوضها، دخلت كل بيت. أبكت الكثير وأسفرت عن ملايين الأيتام والأرامل والمشردين الذين لم يبق لهم إلا الله ليسألوه النصر والرحمة.
امهاتنا مازلن يبكين، وأخواتنا يُنتهكن، وشبابنا يتعرضون للملاحقة والتصفيات، وهناك عشرات الآلاف منهم في السجون يتعرضون لأبشع أعمال التعذيب.
والوحش الذي لم يعد بحاجة الى أبوغريب لكي يغتصب أو يُعذب فيه، صنع في أقبية مليشياته الطائفية ألف أبو غريب آخر.


واليوم، فحيثما تفرض الأحزاب الطائفية حضورها، بالقهر والفساد وشراء الضمائر، فانها أصبحت جزءا من المُتداول والمألوف، حتى لكأنها حقيقة من حقائق الواقع.
لقد هزمنا أعتى قوة في التاريخ، وأوقفناها على حافة إنهيار شامل، وجعلناها تنزف على إمتداد المسافة من الفلوجة الى نيويورك، إلا أننا لم ننتصر.
تلك حقيقة تستحق الاعتراف بها اليوم، لأنها من أقدس المسؤوليات الوطنية، ولأنها من أكبر امتحانات صفاء الضمير.
لم ننتصر، حتى ونحن ندفع الضحية تلو الضحية، والدمعة تلو الدمعة، والصرخة تتلو الآخرى، لأننا لم نضع، بعد، استراتيجية نصر.


وضعنا للغزاة استراتيجية هزيمة. صنعناها من بسالة مئات الآلاف من أبطالنا المقاومين، ومن دموع أمهاتنا اللواتي بقين يودعن الشهيد تلو الشهيد. إلا أننا لم نضع استراتيجية تحرير، تحدد ملامح وقواعد ومستلزمات الفصل الأخير.
لم نقل، في المسافة بين مقاومٍ وآخر، ماذا نريد للعراق أن يكون.


ولم نسأل، في المسافة بين فصيل وآخر، كيف يجوز للدم، الذي ينزف موحدا من أجل الحرية، أن يضع حاجزاً بين الجرح والجرح؟
في لحظةٍ من لحظات الموت الكثيف كان النصرُ بادياً. وفي غمرة الفوضى والخراب والنزف الشديد، كان يبدو وكأن أي جبهة من جبهات مقاومتنا قادرة على أن تٌمسك بالعشبة؛ عشبة الحرية.


ولكن قَدَراً من أقدار التراجيديا الأبدية بدا وكأنه يأخذنا الى الوقوف على حافة النصر قبل أن يصل الثعبان اليه.
فلم نسأل، في المسافة بين إمرأةٍ تُغتصب وطفلٍ يتيم، كم من الضحايا سنظل ندفع يا رب العالمين قبل أن يعي قادةُ مقاومتنا أنهم يضعون بين الجرح والجرح سكينا من صغائر الخلاف على ماضٍ، وعلى تفاصيل، حتى وهم أنفسهم ينزفون.


نعترف لهم أنهم أبطال تاريخيون. ولسوف يُشرفني أن أنزل الى قدمي كل واحدٍ منهم لأقبّلَ ما مشت على طريق الحرية، ولكني يا رب لم أعد قادرا على التضحية بأكثر من خمسة ملايين مشرد وأكثر خمسة ملايين يتيم وأكثر من 12 مليون فقير، وأكثر من مليون أرملة.


من أين أجيب شعبا، لكي نبدأ الفصل الأخير، فيكون الأخير فعلا؟
قولوا لي، من أين؟
قولوا لي، أو قولوا لله رب العالمين، إن كان يرضى بأمهات أخرى تُغتصب، قبل أن تعثروا فيما بينكم على طريق يوحدكم، فتكتبوا على صفحة الهزيمة مشروعا للنصر.
من أين لي، يا مَنْ تُعفّرُ وجهك بتراب الحرية، أن أجيب أطفالا يبكون أكثر، قبل أن تعرف أنك تُطلق النار على نفسك عندما لا تعرف كيف تضع إطاراً جامعاً لمقاومةٍ وطنيةٍ موحدة؟


وهل بقيتْ في المآقي دموع، قبل أن يفهم مَنْ يجب أن يفهم، انه إن لم يكن جزءا من الحل، كان جزءا من الكارثة؛ إن لم يكن جزءا من مشروع النصر، كان جزءا من مشروع الهزيمة؟


لقد دفعنا من الثمن أبهظه من أجل أن نهزم أعتى قوة في التاريخ. وكنا نرى ونعرف كم كان يعني خيار المقاومة من الموت.
لا أحد يستطيع القول انه لم يكن يعرف حجم الثمن. فلقد ألقى الغزاة من القنابل والصواريخ ما كان يكفي لنرى أنهم جاءوا من أجل دمارٍ شاملٍ، وسحقٍ إنسانيٍ شامل.
ورأينا، بأم العين، من أي قرون وسطى جاء الطائفيون. ورأينا، بأم أم العين الى أي سفالة، في الحياة وفي السياسة، ينتمون.
وقررنا أن نقاوم. لا ثأرا لدم يُهدر في المسافة بين حزب وآخر، وإنما ثأراً لشرفٍ يُنتهك، ولحريةٍ تُستباح، ولوطنٍ يُذبح من الوريد الى الوريد.
لم نسأل، عندما اندلعت مقاومتنا، مَنْ فينا البعثي أو الإسلامي أو العلماني أو الوطني الذي لا حزب له، لأن الرابط فيما بيننا كان هو العراق؛ هو هذه البلاد التي من طينها خُلقنا، ومن مائها جرت عروقنا، ومن تاريخها نشأت ثقافتنا.
ووجدنا، بحكم الطبيعة، أن وطنيتنا تناهض طائفيتهم، شرفنا يسخر من عمالتهم، وإخلاصنا، ولو بالفقر والجوع، يتحدى تواطؤهم،.. فوضعنا فوق الموت دماً، وقررنا أن نقاوم.


لم نسأل عن تفاصيل.
فأمام العراق لم يكن هناك فرقٌ بين مَنْ يقاوم ومَنْ يقاوم. وكل بندقية ظلت مقدسةً، وكل شهيدٍ كان عرسا.
حتى هزمناهم. وحتى أوقفناهم على باب الهاوية. وحتى رددنا لهم الموت بالموت، والضياع بالضياع، و"الفوضى الخلافة" بالفوضى في وول ستريت.
ولكن السؤال الذي أجّلناه من أجل هزيمتهم، صار مما يمكن تنقلب مفاعيله علينا. وإذا بهم يدركون، انهم يمكن أن يبقوا كجزء من العادة والمألوف، وإن احتلالهم يستطيع أن يستمر بعملية سياسية يجري تطبيعها في اللغة اليومية وفي المشاغل. كما يستطيعون أن يبدلوا وجوها قبيحة بوجوه قبيحة، ويقولوا أنها ستكون حلا ومخرجا.


حل، ولكن لأي مشكلة؟ مخرج، ولكن لأي موضوع؟
العراق يتراجع اليوم، لصالح حكومة (ولو عميلة) تجلب الماء والكهرباء!
والوريد يظل مقطوعا، لصالح تحالفات، يُوزع فيها أصحاب الكعكة شيئا من فتاتها لقاعدة أخرى من المنتفعين.
والمشردون والأيتام يظلون مشردين وأيتاما، لأن هناك من يثرد "الأمل" في صحن "حكومة شراكة وطنية" لم تعرف من الشراكة إلا الشراهة ومن الوطنية إلا العمالة، ومن العمالة إلا أقذرها.


فهل رأيت ما يضيع؟
هل تنبهت حقا الى ما يتسرب من بين الأصابع؟
العراق هو ما يخرج من الموضوع. رباطك هو الذي يتفكك في تلك المشاغل والتفاصيل.
فمن أين لي، يا ربي، بأكثر مما دفعت من آلام ونحيب، قبل يفهم المقاومون أنهم يخسرون إذا لم ينتصروا على المسافة التي تفصل فيما بينهم، ليبقى الرباطُ رابطاً؟
لقد قاتلنا، بوحي من ضمائر حرة. ولكن ليس من أجل أن نبكي المزيد، وإنما من أجل نعيد الى العراق حريته وسيادته واستقلاله.


هل كنا نبحث عن شيء آخر؟
لقد قدمنا من التضحيات ما لم تقدمه مقاومة من قبلنا، وكنا نعرف كم هو وحشيٌ هذا العدو، ولكن ليس من أجل أن نضيف الى قائمة الضحايا ضحايا جدداً، إنما من أجل أن نعيد صنع هذا العراق ليكون على مقاس العدل والحرية والمساواة والخير.
من العذاب، ومن المرارة، ومن الثأر، ومن نوازع الحرية، ولكن بالكثير من الدموع، صنعنا هزيمتهم، ودفعناهم الى طلب الرحيل لكي يخفضوا قيمة الفاتورة، حتى وجدتَ "نهايةَ التاريخ" تقفُ على حافة الخروج من التاريخ.
فهل لم يفهم مقاتلونا وقادتهم أن بسالتهم لا تكفي لكي تأتي بالنصر إذا لم يكن العراق الجامع هو الموضوع؟
فهل لم يفهم مقاتلونا وقادتهم أن هزيمة الغزاة شيءٌ، وهزيمة عملائهم شيءٌ آخر؟
وهل لم يفهم مقاتلونا وقادتهم أن جلب الموت فوق الموت ممكنٌ، إلا انه لا يصنع آخر الطريق، من دون دستور تحرير؟
هل لم نفهم إن المقاومة كعمل ميداني لا تكفي، وأن النصر لا يأتي ما لم تكن هناك استراتيجية نصر جامعة تعقبُ صنع الهزيمة؟
هل لم نفهم إن شعبك لا يمشي وراءك كل الطريق ما لم تأخذه (بتعدديته وفسيفسائه) بالحسبان، وما لم تقل له الى أين تريد أن تأخذ به؟
هل لم نفهم، إن الغزاة إذا كسبوا بقاءهم بحكم العادة والمألوف، فان كل فصيل يخسر عندما يخسر الفصيل الآخر وإن الجميع ينتحرون؟
أم هل لم نفهم أن أعراضنا ما تزال تنتهك، وأنها ستظل تنتهك الى أبد الآبدين، ما بقي الاحتلال يبدلُ وجوهاً قبيحة بوجوه قبيحة من أجل حكومة تتقاسمُ العراقَ فيما بينها وتوزعه حصصا؟


ما لم تضع المقاومةُ نهايةً لهذا الفصل الحزين، وما لم ترفع الجدران فيما بينها، وما لم تضع إستراتيجية تحرير مشتركة، وما لم تجعل العراقَ نُصب العين، فلن يبقى لنا إلا العذاب والخسارة والدموع.
ولن يبقى، لمن آمنوا بالحرية، طريق.
سنضيع، واحداً بعد الآخر.
وسيذهب بعضنا أذلاء الى كعكة "الشراهة الوطنية" بحثا عن حصةٍ، ولو متأخرةٍ، في العملية السياحية التي ساحت بكل هذا النزيف.
وسيرفع الباقون منا أيديهم، لا بالدعاء، وانما بالشكوى فوق بحر من الدماء: لماذا يا رب العالمين؟ من أين يا رب العالمين سنأتي بشعب آخر نحارب به، ثم لا نعرف كيف نحرره، يا أرحم الراحمين؟
أنت قل لي، يا سيدي، من أين؟ وهل بقي لديك بعد الخمسة ملايين ممن وُضعوا في الجحيم، المزيد من الجحيم؟
هل تقترح، بعد سبع من الإحتلال، سبعاً أخرى من البحث عن طريق؟
أيُّ وعدٍ شريرٍ سيكون هذا؟
من دون رؤية وطنية مشتركة، مَنْ سيبقى، وبمن سنحارب؟ وما الذي سنقوله لهذا اليتيم، وتلك التي ثكلت، وذاك الشهيد؟
قل لي، بالله، ماذا سنقول؟ وبأي وجه سنواجه الباقين إذا تفكك الرباط، وإذا قلبنا لهم النصر الوشيك هزيمة؟
كيف ستنجو الرابطةُ إذا غرقت السفينة وآل خرابُها للطائفيين؟


قل لي، كيف؟
ثم قل لي: وين أروح؟
ولمن أشكي؟
وعلى من أذرف الدموع؟

 

 





السبت١٦ شوال ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٥ / أيلول / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب علي الصراف نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة