شبكة ذي قار
عـاجـل










تؤكد كل وثائق العهد النبوي الشريف وتشريعات الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم الإجتماعية المساواة بين الناس في منهج الاسلام وتشريعه، فالمسوات بين الناس عموما شيء قدمنا الحديث عنه في الأجزاء السابقة، أما تساوي تعامل دولة الإسلام مع مواطنيها فقد تجلى في دستور المدينة أول عاصمة للإسلام ووثيقة العهد هذه التي سماها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عهد الله وذمة نبيه محمد بن عبد الله للمسيحيين العرب والذين أسماهم الله في كتابه النصارى نسبةّ لسيدنا نبي الله المسيح بن مريم عليه السلام، الذي أول ما أعلن دعوته عند خروجه من مدينة الناصرة متوجها لمدينة الخليل فلقب بالناصري، ومن خلال تشريع الرسول محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم أقتفى صحبه وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم نفس المنهج في التعامل مع المسيحيين في الدولة الإسلامية.

 

وثيقة الرسول لنصارى نجران: هذه الوثيقة كما أسلفنا في وصف دستور المدينة ليست وثيقة مؤقتة أو تكتيك سياسي، بل هي تشريع ديني ودستوري للعرب وعموم المسلمين، وتبيانا للجميع عن صيغة التعامل بين الأديان لاحقا، ورسم صيغة الدولة الإسلامية وعلاقتها بمواطنيها.

 

لنجران وحاشيتها، وسائر من ينتحل دين النصرانية في أقطار الأرض، جوار الله وذمة محمد رسول الله، على أموالهم، وأنفسهم، وملتهم، وغائبهم، وشاهدهم، وعشيرتهم، وبيعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير .. أن أحمي جانبهم، وأذب عنهم، وعن كنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم، ومواضع الرهبان ومواطن السياح .. وأن أحرس دينهم وملتهم أين كانوا بما أحفظ به نفسي وخاصتي وأهل الإسلام من ملتي .. لأني أعطيتهم عهد الله على أن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، وعلى المسلمين ما عليهم بالعهد الذي استوجبوا حق الذمام، والذًبُ عن الحرمة، وإستوجبوا أن يُذًبُ عنهم كل مكروه، حتى يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم وفيما عليهم .. لا يغير أسقف عن أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته، ولا يغير حق من حقوقهم ولا سلطانهم، ولا شيء مما كانوا عليه ..

 

وليس عليهم دنية، ولا دم جاهلية، ولا يحشرون (أي يجمعون للقتال)*، ولا يعشرون (أي لا يدفعون ضريبة العشر التي يدفعها الأجانب لأنهم مواطنون) ، وليس عليهم خراج ولا جزية إلا على من يكون في يده ميراث من ميراث الأرض ممن يجب عليه فيه للسلطان، فيؤدي ذلك على ما يؤديه مثله، ولا يجار عليه، ولا يُحمٌّلُ منه إلا قدر طاقته وقوّته، على عمل الأرض وعمارتها وإقبال ثمرتها، ولا يكلف شططا، ولا يتجاوز به أصحاب الخراج من نظرائه.

 

أتى كبار أحبار نجران للرسول بعد أن كانوا قد حفظوا عهد الله في عدم تكذيب رسوله وإعلان الحرب عليه أو التحالف مع أعدائه من مشركي قريش كما فعل اليهود، وقد حفظ ذلك لهم رسول الله ولانهم صدقوا ما جائهم في الإنجيل كتاب الله المنزل لنبيه عيسى بن مريم عليه السلام ودعموه ونهوا عن محاربته، فكانوا الأصحاب الكتب السابقة للقرآن الذين لم يبدلوا ويحرفوا ويعادوا الرسول فلو عدنا الى أمر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأتباعه بالهجرة الى الحبشة، لم يكن دون دراية وتقدير لأبعاد تلك الهجرة وتبعاتها، بل كان ذلك بتقدير وتأكيد أن فيها ملك لا يظلم عنده أحد، كونه ملتزماّ بدين الله وتشريع عادل هو ما جاء به النبي عيسى عليه السلام، بعكس ما كان من اليهود وما ظهر منهم من عداوة وبغضاء تؤكد غشّ صدورهم، وسوء مأخذهم، وقسوة قلوبهم، وأنهم كتموا ما أكده الله عليهم في التوراة، ولم يظهروه،بل كتموه وجحدوه، وأجمعوا على العداوة لله ورسوله، وألبوا عليه وزينوا للناس الكذب، وإدعوا أن الرسول مدعي وهو لم يرسل من الله مبشرا ونذيرا للناس، وهم يعرفوه أنه الحق من ربهم كما يعرفون أبنائهم على حد وصف الله في القرآن لهم، وتحالفوا مع المشركين والوثنيين من قريش وغيرها من العرب، ونقضوا عهد الله وميثاقه، (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل* لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون* كانوا لايتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون* ترى كثيراّ منهم يتولون الذين كفروا ولبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون* لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون* وإذا سمعوا ما أنزل الى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فأكتبنامع الشاهدين) المائدة الايات76-83، لاحظ وصف الله لليهود ولعنه لهم، وكيف ميز النصارى وحمد فيهم، ولو كان اليهود يؤمنون بالله والنبي وما أنزل اليه ما أتخذوا مشركي قريش أولياءاّ لهم وحالفوهم ولكن كثيرّ منهم فاسقون، فكان غضب الله عليهم ولعنهم من قبل، ونصر الله جنده عليهم في مواقع عديدة لنكثهم ونقضهم العهد وممالئتهم للمشركين كما هو موقفهم في خيبر وبني النضير وبنو قينقاع وغيرها من المواقع التي سلط الله عليهم المؤمنين.

 

أما موقف النصارى أتباع رسالة نبي الله عيسى عليه السلام فكانت: رفض الإستجابة لمحاربة الله ورسوله، وكانوا كما وصفهم الله ألين قلوبا وأقرب مودة للمسلمين، وقد تميز موقف النصارى العرب من الرسول ودعوته أنهم أعانوه على الظهور، وأمدوا الله ورسوله فيما أحب، وأنذروا الناس وأبلغوهم بصحة ما جاء به، ولو إنتبه كثير من المؤرخين والمحققين للاحظوا أن قبائل اليمن آمنت دون قتال ولم يصلهم الدعاة، وأنا اتوقعه نتيجة لتأثير النصارى فيهم وتأكيدهم لتلك القبائل أن الرسول حق وهو الذي بشر به الأنبياء السابقين وورد ذكرة في الكتب السابقة.

 

وهنا يصف الرسول صلى الله عليه وعلى آل بيته وسلم وفد نصارى نجران ومبررات العهد الذي كتبه لهم: فيقول: وأتاني السيد، وعبد يشوع، وإبن حجرة، وإبراهيم الراهب، وعيسى الأسقف، في أربعين راكبا من أهل نجران، ومعهم جلّة أصحابهم، ممن كان على ملة النصرانية في أقطار أرض العرب وأرض العجم، فعرضت أمري عليهم، ودعوتهم الى تقويته وإظهاره، والمعونة عليه، وكانت حجة الله ظاهرة عليهم، فلم ينكصوا على أعقابهم، ولم يولوا مدبرين، وقاربوا ولبثوا، ورضوا وأرفدوا وصدقوا، وأبدوا قولاّ جميلاّ ورأيا محموداّ، وأعطوني العهود والمواثيق، على تقوية ما أتيتهم به، والرد على من أبى وخالفه، وإنقلبوا الى أهل دينهم، ولم ينكثوا عهدهم، ولم يبدلوا أمرهم، بل وفوا بما فارقوني عليه، وأتاني عنهم ما أحببت من إظهار الجميل وحلافهم على حربهم من اليهود، والموافقة لمن كان من أهل الدعوة على إظهار أمر الله، والقيام بحجته، والذب عن رسله، فكسروا ما إحتج به اليهود من تكذيبي، ومخالفة أمري وقولي.

 

وأراد النصارى من تقوية أمري، ونصبوا لمن كرهه، وأراد تكذيبه وتغييره ونقضه وتبديله ورده، وبعث الكتب اليّ  كُلّ من كان من أقطار الأرض، من سلطان العرب من وجوه المسلمين، وأهل الدعوة بما كان من تجميل رأي النصارى لأمري، وذبهم عن غزاة الثغور في نواحيهم، والقيام بما فارقوني عليه وقبلته، إذ كان الأساقفة والرهبان لذلك منة قوية في الوفاء بما أعطوني من مودتهم وأنفسهم، وأكدوا من إظهار أمري، والإعانة على ما أدعو إليه وأريد إظهاره، وأن يجتمعوا في ذلك على من أنكر، أو جحد شيئاّ منه، وأراد دفعه وإنكاره، وأن يأخذوا على يديه ويستدلوه، ففعلوا وإستدلوا وإجتهدوا، حتى أقر بذلك مذعناّ، وأجاب إليه طائعاّ أو مكرها، ودخل فيه منقاداّ مغلوباّ، محاماةّ على ما كان بيني وبينهم، وإستقامة على ما فارقوني عليه، وحرصا على تقوية أمري، ومظاهرتي على دعوتي، وخالفوا في وفائهم اليهود والمشركين من قريش وغيرهم، ونزهوا نفوسهم عن رقة المطامع التي كانت اليهود تتبعها وتريدها، من الأكل للربا، وطلب الرشا، وبيع ما أخذه الله عليهم بالثمن القليل (فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون). فاستوجب اليهود ومشركوا قريش وغيرهم، أن يكونوا بذلك أعداء الله ورسوله لما نووه من الغش، وزينوا لأنفسهم من العداوة، وصاروا الى حرب عوان، مغالبين من عاداني، وصاروا بذلك أعداء الله ورسوله وصالح المؤمنين، وصار النصارى على خلاف ذلك كله، رغبة في رعاية عهدي، ومعرفة حقي، وحفظاّ لما فارقوني عليه، وإعانة لمن كان من رسلي في أطراف الثغور، فإستوجبوا بذلك رأفتي ومودتي، ووفائي لهم بما عاهدتهم عليه، وأعطيتهم من نفسي، على جميع أهل الإسلام، في شرق الأرض وغربها، وذمتي، ما دمت وبعد وفاتي إذا أماتني الله، ما نبت الإسلام، وما ظهرت دعوة الحق والإيمان، لازم ذلك من عهدي للمؤمنين والمسلمين، ما بلّ بحر صوفة، وما جادت السماء بقطرة، والأرض بنبات، وما أضاءت نجوم السماء، وتبين الصبح للسارين، ما لأحد نقضه، ولا تبديله، ولا الزيادة فيه، ولا الإنتقاص منه، لأن الزيادة فيه تفسد عهدي،والإنتقاص منه ينقض ذمتي ويلزمني العهد بما أعطيت من نفسي، ومن خالفني من أهل ملتي، ومن نكث عهد الله عز وجل وميثاقه، صارت عليه حجة الله، وكفى بالله شهيداّ.

 

وإن السبب في ذلك .. نفر من أصحابه، سألوا كتاباّ لجميع أهل النصرانية، أمانا من المسلمين، وعهدا ينجز لهم الوفاء بما عاهدوهم، وأعطيتموه إياه من نفسي، وأحببت أن أستتم الصنعة في الذمة، عند كل من كانت حاله حالي، وكفّ المؤونة عنّي، وعن أهل دعوتي في أقطار العرب، ممن إنتحل إسم النصرانية وكان على كللها، وأن أجعل ذلك عهداّ مرعياّ، وأمراّ معروفاّ، يتمثله المسلمون، ويأخذ به المؤمنون، فأحضرت رؤوساء المسلمين، وأفاضل أصحابي، وأكدت على نفسي الذي أرادوا، وكتبت لهم كتاباّ: يحفظ عند أعقاب المسلمين، من كان منهم سلطاناّ أو غير سلطان، فإن على السلطان إنفاذ ما أمرت به، ليستعمل بموافقة الحق الوفاء، والتخلي الى من إلتمس عهدي، وإنجاز الذمة التي أعطيت من نفسي، لئلا تكون الحجة مخالفة أمري، وعلى السوقة أن لا يؤدوهم، وأن يكملوا لهم العهد الذي جعلته لهم، ليدخلوا معي في أبواب الوفاء، ويكونوا لي أعواناّ على الخير، الذي كافيتُ به من إستوجب ذلك مني، وكان عوناّ على الدعوة، وغيظاّ لأهل التكذيب والتشكيك، ولئلا تكون الحجة لأحد من أهل الذمة على من انتحل ملة الإسلام، مخالفةّ لما وضعت في هذا الكتاب: والوفاء لهم بما إستوجبوا مني وإستحقوا، إذ كان ذلك يدعو الى إستتمام المعروف، ويجر الى مكارم الأخلاق، ويأمر بالحسنى، وينهي عن السوء، وفيه إتباع الصدق، وإيثار الحق إن شاء الله تعالى.

 

ولأهمية الوثيقة ومدلولاتها أوصي بالآتي:

 

توصية:

 

أنا ككاتب مسلم ومواطن عربي وإنسان مؤمن أقترح ويكاد أقتراحي يكون ملزما لكل عربي ولكل مسلم ولكل إنسان حر يدعو للخير والسلام والأمن والتعايش السلمي والإنساني بين البشر

 

أن تعلن هذه الوثيقة ويكتب عنها الجميع، خصوصا وسائل الإعلام والقنوات الفضائية والإذاعات العربية والاسلامية، وأن تجرى فيها حوارات ومناقشات وندوات باستمرار، ويركز عليها خطباء المساجد والكنائس في خطبهم الاسبوعية.

 

على كل مسجد وكنيسة في الوطن العربي طبعها وتعليقها في مدخل المسجد والكنيسة، وأن تطبه هذه الوثيقة وتعلق في بيوت الله بمكة والقدس ومسجد الرسول.

على جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الاسلامي طبع هذه الوثائق وتعليقها في أماكن بارزة وفي مقراتها.

على كل برلمانات العرب والمسلمين طبع هذه الوثيقة وتعليقها في مقراتهم بل وفي كل قاعة ضمن ابنيته والدوائر التابعة لتلك البرلمانات.

على كل الجامعات والكليات والمعاهد والمدارس أن تطبع هذه الوثائق وتعلقها في مداخل ابنيتها.

 

 على كل الأحزاب العربية والمنظمات الشعبية والمهنية وبالأخص الاجتماعية والقانونية والحقوقية أن تستنسخ هذه الوثائق دستور المدينة ووثيقة نصارى نجران وتعلقها في مداخل أبنيتها ومقراتها الرئيسية والفرعية، الوطنية والإقليمية والفروع في المحافظات والولايات.

 

أن تدخل هذه الوثائق في مناهجنا الدراسية لكل مراحل التعليم ويتدرج شرح تفاصيلها مع مستوى استيعاب الطلاب لها، وإن كان واحدا من شروط التعليم حفظ سور من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف فيجب أن تكون بنود هذه الوثيقة الزامية في ذلك، وإن كان واحدا من اساسيات مقررات اللغة العربية حفظ نصوص من الشعر والأدي كتراث فالواجب أن تكون بنود هذه الوثيقة اولها، وأن تكون هذه الوثائق دستور المدينة ودستور دولة الاسلام (وثيقة عهد الله ورسوله لنصارى نجران) مادة أساسية في منهج كليات القانون والشريعة والفلسفة واللاهوت في جميع جامعاتنا العامة والخاصة.

 

  أن لايخلوا دستور دولة إسلامية من الاشارة لهما والإلتزام بما ورد فيهما، لأن في ذلك مصلحة الأمة ودينها والإنسانية جمعاء، بالإضافة الى أنه يعري كل إفتراءات وظلال المعادين للإنسانية.

 

 





الخميس٢١ شوال ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ٣٠ / أيلول / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب عبد الله سعد نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة