شبكة ذي قار
عـاجـل










مؤلم أن يختطف الموت عزيزاً في وقت يحتاج إليه الجميع، وفي وقت عسير يمرّ وطنه وشعبه بأدقّ الظروف وأقسى المحن.


فجر يوم الاثنين 11 تشرين الأول/ أكتوبر رحل الصديق محسن خليل إلى لقاء ربّه بعد أن قدم كلّ ما بوسعه لوطنه وشعبه في حالتي البناء والسعي للتحرير، وكان في كليهما جندياً مثابراً يستغرب الناس كيف لا يرحم نفسه وكيف يجور على شيخوخته فيعمل بنشاط ابن عشرين ..  ولكنها الجمرة المتقدة المتأججة بين الجوانح التي يسمونها (حب الوطن) ..  وأي وطن هو؟ ..

 

إنه العراق الذي ما انحنى وجيوش الغزو من كل حدب وصوب تدوس أرضه الطاهرة ..


ليس هذا كلام شعارات، ولا هو مبالغة في حب المحبوب أو عشق المعشوق، وإنما هي حقيقة ماثلة للعيان، وإن كانت الماكنة الإعلامية الغربية تحاول طمسها وصرف أنظار الناس عنه ..


أليس هو العراق الذي ما استطاعت غزوه أعظم دولة من دول العالم إلا بالاستعانة بجيوش الغرب والشرق؟ ..  أليس هو العراق الذي شغل الناس وملأ الدنيا؟ .. 


وبمن كان العراق قوي ..  أليس بالمؤمنين من أمثال الدكتور محسن أبي بسام؟ ..


إذا أردت أن تتعلم التواضع فمنه، وإن أردت أن تثبت على مبدأ فمنه، وإذا أردت أن يحبّك الناس فادرسْ سيرته.


كان أبا بسام متواضعا وهو يشغل المناصب العليا في العراق: مدير مركز الدراسات والبحوث في مجلس قيادة الثورة، المستشار الإعلامي للرئيس الراحل صدام حسين، سفير العراق في اليمن والقاهرة ثم مندوب العراق في جامعة الدول العربية، وقد ظل حتى فجر الاثنين الماضي المندوب الشرعي للعراق في هذه الجامعة .. . كان متواضعاً لا يجالس إلا الفقراء ولا يمشي إلا في قضاء حوائجهم ..  ويوم كان مديراً لمركز الدراسات والبحوث في مجلس قيادة الثورة، استقطب مفكري العراق ومثقفيه لإسناد المركز بالمحاضرات وحضور الفعاليات، وقد حدثني، رحمه الله، يوم التقينا في الشام عن كيفية إقناعه العلامتين الجليلين الدكتورين الراحلين علي الوردي وحسين علي محفوظ اللذين كانا يبعدان عن أي ناد أو مجلس يشمان فيه رائحة السلطة، فكيف بأعلى سلطة وهي مجلس قيادة الثورة ..


كان يتحدث معهما حديث طالب إلى أستاذه ويتفقدهما ويذهب بنفسه لدعوتهما ثم يأتي بنفسه لاصطحابهما إلى القاعة التي يقام عليها النشاط، ولا ينسى أن يسألهما عما يحتاجان من أدوية مفقودة يدبرها لهما عن طريق أصدقائه خارج العراق، فأنسا به واطمأنا إلى أن السلطة التي يبالغان في الابتعاد عن شؤونها وفي هواجسهما منها، إنما هي سلطة عراقية وتتفاهم ويستطيعان أن يوصلا إليها هموم الناس.


وكذلك فعل مع الآخرين من الكبار ..


وأذكر أني كلفت بكتابة تحقيق عن قواطع الجيش الشعبي في بداية الحرب العراقية الإيرانية لصالح جريدة (القادسية) ولفت انتباهي مقاتل يفترش الأرض وفي فمه سيكارة محتضناً بندقيته، ولم تكن تستطيع أن تميّزه عن المقاتلين، فقصدته وسألته وإذا به يتدفق بالحديث، والصحفي يسرّه التدفق في الحديث، وعندما أنهيت حديثي معه سألته عن اسمه فأجابني أنه محسن خليل، ولم يزد، علما أنه كان من القياديين في ذلك القاطع ..


وبعدها لم أره ولكني كنت أسمع أنباء نشاطه وذكره الطيب، وأقرأ له في الصحف والمجلات، وشاءت الظروف أن نلتقي بعد الاحتلال في الشام، واستقبلني عندما عرّفته بنفسي بحرارة وطفق يتحدث معي حديث صديق لصديق على الرغم من أني لم أره إلا مرة واحدة ..  ودعوته إلى وجبة غداء قرب سوق الحميدية من (الفشافيش المشوية) وأنا شاعر بالخجل منه لبساطة المكان والطعام، وإذا به يأتيني في اليوم التالي ليدعوني على وجبة الطعام نفسها، وهكذا صرنا كلّما التقينا تغدينا في ذلك المطعم البسيط الذي يتناول فيه رواده الطعام واقفين، ثم نذهب بعدها إلى مقهى الحجاز لنحتسي الشاي.


ومرة ذهبنا إلى منطقة الزبداني في سوريا بدعوة مني للقاء شاب صغير أسس تجمعا عشائرياً لدعم المقاومة فقدم له النصائح في كيف يجب أن يعمل ولكنه، رحمه الله، حذرني منه عندما خرجنا من اللقاء مباشرة، وكان حدسه في محله فقد التحق هذا الشاب بعصابة المنطقة الخضراء، ويبدو أنه كان مكلفاً بمهمة محددة في الشام.


رحم الله أبا بسام فقد كان سفيراً للعراق خلال الحكم الوطني الذي كان قائماً قبل الاحتلال وتحول إلى سفير للمقاومة العراقية بعد الاحتلال ولم ينثن عن جهاده، أو يعتذر كغيره بشيخوخة أو أمان عائلة أو أي من الأعذار التي ساقها غيره للتملص من واجبه الوطني المشرف، بل أنه قعّد القواعد لثقافة المقاومة وعبّد الطريق للمناهضين للاحتلال في كيف يواجهون ثقافة المحتل الباغي وأزلامه الصغار.


وحاولت لقاءه يوم جاء إلى المنامة ليتلقى علاجه في مستشفى السلمانية بجهد من الكاتبة العروبية سميرة بن رجب في العام 2009 فلم أفلح، إذ كنا كلما نذهب أنا والصديقين العزيزين رحيم مزيد وعلي الشريفي إلى غرفته في المستشفى يقال لنا إنه خرج مع صديق أصرّ على دعوته إلى داره.


ورحل عن دنيانا فجراً وكأنه يريد أن يقول للعراقيين الممتحنين: اصبروا فإن فجر العراق قريب وإنه آت لا ريب فيه.


اللهم تقبله عندك بقبول حسن وأسكنه جناتك وارحمه وأسبغ عليه نعيمك فقد دافع عن العراق حتى النفس الأخير.
 

 

 





الاربعاء٠٥ ذي القعدة ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ١٣ / تشرين الاول / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب سلام الشماع نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة