شبكة ذي قار
عـاجـل










عربة بسيطة يقتات منها مواطن بسيط، سدت في وجهه كل سبل العيش ، بعد أن تخرج من جامعته و لم يجد عملا له ، فأختار اللجوء لهذه العربة لتكون مصدرا للرزق بدلاً من الانكفاء على ذاته على ذاته ، يلعن الظلام والفقر، لكن أن تصادر هذه العربة، فما سيبقى له بعدها، لقد كانت هذه العربة لمحمد البوعزيزي بمثابة الوطن، جرى يركض هنا وهناك ليستعيدها، فأصطدم بكرامة العربي، باعتداء صارخ على الرجولة و القيم والأخلاق، اصطدم بشرطية تنهال عليه ضربا و لكما، فما استطاعت نفسه الصبر على الظلم، الذي صار يتراكم فوق الفقر والبطالة، وظروف الحياة البائسة، ونسيان كل حلم جميل حلم به ، وسعى لتحقيقه، فأضرم النار بنفسه ... عربة كانت فتيل الاشتعال لمحمد البوعزيزي، الذي صار عنوانا لثورة تونس على حكم زين العابدين بن علي .


لقد قادتني أفكاري أن محمد البوعزيزي كان يترنم بقول الشاعر وألسنة النيران، تلتهمه من كل ناحية :-


علمني وطني أن حروف التاريخ مزورة
حين تكون بدون دماء
و طني هل أنت بقية داحس و الغبراء


أحس الشهيد، بأن هذا وقت الشهادة، وأن الأزمة في الوطن تتأجج ولا تحتاج إلا فتيل ليصبح الشعب كله محمد البوعزيزي، لتعود تونس لجماهبرها الذين شبعوا من الظلم و الفساد والقمع لينتفضوا عبر شعاع الشمس، في ثورة للوطن و للتحرر وللخبز وللمجد.


ما كانت ثورات الشعوب إلا بعد أن تمل الشعوب الانتظار، وما تطيق السكوت، فإذا انتهى الصبر ما عاد لهم إلا تجريب التغير، فالشعوب لا تتفق إلا على رفض الكبت والقمع والفقر والبطالة، ولا تتفاهم إلا عبر لغة الخبز والحرية، لذا كانت الثورات ذات أسباب اجتماعية بالدرجة الأولى، فالحياة بلا ظروف يكفل فيها الفرد بداية، وبالتالي المجتمع بأسره شبعه واحترامه لنفسه، هي حياة مجردة من الجوانب الإنسانية، لا تشكل غاية ولا طموحا، من هنا جاءت الثورات براكين وزلازل يحاكي الإنسان ذاته من خلالها، قبل مخاطبته الخندق المقابل، بأنه لا يزال يعيش وأن صفاته الآدمية لا زالت تعيش فيه وهي بوصلة الحركة التي تحركه، فالثورة إذا سلوك إنساني يغير الناس فيه ضعفهم وإرادتهم المسلوبة، إلى قوة وعزيمة وشكيمة وجرأة.


إن كان هذا حال الشعوب كلها، فكيف حال أبناء الأمة العربية وما لهم من صفات ذاتية وموضوعية، تجعلهم لا يستطيعون قبول الظلم، والتفرد والتسلط ، نعم فهذه أمة الرسالات والفتوحات، والشهداء، والرموز، وأمة الخيرات والثروات، لذا وإن صبر الشعب العربي على الليالي السوداء، فهذا مطلقا لا يعني أن الشعب قد أستسلم للأمر الواقع، بل على العكس منه فهذا شعب يؤمن بنفسه وقدرته على تغير مجرى الأمور، عندما يسوء الحال ويستدعي ذلك، في الظرف والوقت المناسب، حينها يهب الشعب لتحقيق كل ما يصبو إليه من أهداف من خلال المنطلقات التي يؤمن بها وبحكم فطرته، مستندا إلى وعائه الفكري والثقافي والمزيج الحي الذي يحتويه من لغة ودين وعادات وتقاليد وآمال وتطلعات، فالعرب هم همة الأمة التي تسير بها إلى العناوين العالية، لذا فإن الثورة الشعبية للشعب التونسي قادها أبناء تونس الغر الميامين بكل شرائح المجتمع التونسي وأحزابه ونقاباته، هي تأكيد عملي حقيقي وأصيل بأن للأمة دوما موعداً، يختار وقته المناسب جماهير الأمة وشعبها المجيد .


وحيث أننا نعيش مع أبناء شعبنا في تونس فرحته، بالإنجاز الكبير الذي تحقق، إلا أننا نتضرع إلى الله و نمني النفس، بأن تحافظ الثورة على مكتسباتها التي تحققت عقب انتظار طويل، ذاقت تونس خلاله ما ذاقت، وأن لا يحيد التونسيون عن أهداف الثورة المباركة التي سجلت نفسها في سفر التاريخ العربي المعاصر ثورة شعبية يحترمها القاصي والداني، لذا علينا أن نعي بشكل تام بأن رموز النظام السابق هي شريكة بل هي من أركان هذا النظام، وهي التي سنت السياسات التي حكمت بها تونس، كما يجب علينا أن ندرك ضرورة تفاعل قوى الشعب بمختلف شرائحه الجماهيرية والحزبية والنقابية ضمن نظام ديمقراطي حر يحكم الشعب نفسه بنفسه، من خلال مؤسسات يختارها الشعب توافقياً، وأن يبتعد عن الاختلافات في التفاصيل التي لا تؤدي بالبلاد إلى الخروج من مرحلة ما قبل الثورة، حيث أن هذه المرحلة هي مرحلة تضافر الجهود، و تكاتف القوى ضمن إطار المصلحة الوطنية لتونس، احتراما لمستقبل الأجيال القادمة، وإجلالاً لدماء الشهداء التي أقسمت ذرات التراب التونسية، بأنها لن تذهب هدراً.


وأخيراً فإن لثورة تونس وميض أنار سماء الأمة، بأن أمة العرب هي أمة حية، وإننا نكاد نجزم بأن لثورة تونس في رفع الروح المعنوية للعرب أهمية لا تقل عن أهمية الانتفاضة والمقاومة العراقية في إبقاء الأمل متقداً في صدور العرب المؤمنين بأمتهم، وإننا هنا نجد بان التضحيات التي قدمها شهداء الأمة ورموزها الخالدة، لم تذهب سدى، بل إن الأمة تجني ثمار تضحياتهم تجاه حالتهم المبدئية، ووقوفهم على أعواد المشانق صامدين يهتفون للأمة ولفلسطين وللعراق، وإن غداً لناظره لقريب.

 

 





الاحد٢٦ صفر ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٣٠ / كانون الثاني / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب ليث القصير نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة