شبكة ذي قار
عـاجـل










المتتبع ليوميات الثورة المصرية ابتداء من يوم 25 يناير مرورا بسقوط حسني الخفيف وليس انتهاء بجمعة النصر، يدرك تماما أن الثورة لم تحقق كل أهدافها بعد ، وهو ما يفسر استمرار الاعتصامات والمظاهرات في أنحاء البلاد.


ويحق لنا تشبيه هذا الفصل من فصول الثورة باستراحة المحارب، وستحمل المرحلة القادمة اختبارا صعبا للثوار، وليس لدي أدنى شك بتجاوزهم لها بنجاح، والسؤال المطروح الآن : ماهي مطالب الثوار ؟! فحتما إسقاط النظام كان وسيلة الثورة وليس غايتها، بمعنى أن الشباب يطمحون لتحقيق أهداف كان النظام عقبة في إنجازها، فهبوا لإزاحته.


وقبل التسرع في الإجابة، من الحكمة أن نلقي ولو نظرة خاطفة على علم الاجتماع السياسي، العلم الذي يفسر الظواهر السياسية من ثورات وتشكيل أحزاب من منظور اجتماعي، فهذا العلم يقوم على فرضية أن الحالة الاجتماعية في مجتمع ما هي السبب في نشوء المواقف السياسية له، وهو من العلوم التي نشأت حديثا ولم تعط حقها بعد من البحث.


ولو أسقطنا هذه النظرية العلمية على واقعنا العربي أولا ومن ثم استقرءنا العمل السياسي لدى الشعوب الأخرى لاقتنعنا بنجاعة الاطلاع على هذا العلم .


فمثلا العمل السياسي والثوري في بلد كالعراق ، هو مثل قدح الشاي الذي يشرب أكثر من مرة يوميا ، ووجه الشبه بين العمل السياسي في العراق والشاي هو اللون الأحمر والسخونة ، فلا تستطيع تصور ثورة أو حراك حزبي في العراق بدون دماء وسحل للجثث ، الأمر الناتج عن سخونة الدم الذي يجري في عروق هذا الشعب .


وعلى النقيض، لو عرجنا شرقا الى بلاد الأفيال، الهند، والتي يعتبرها كثير من الناس أعرق ديموقراطية في التاريخ، سنجد أن هذا الشعب طرد الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس بالصمت، والذي يعرف المجتمع الهندي يدرك تماما أنه مسالم لدرجة قد يعتبرها البعض سلبية، المهم أن حراكه السياسي – مواقف وآليات - ناشئ عن طبيعته الاجتماعية.


بقي أن نقول – قبل الشروع في تحليل ثورة الشباب في مصر – أن هذه القراءة لهذين البلدين أو غيرهما ليست بمثابة لعنة التاريخ التي لايمكن تحويرها باتجاهات أخرى، فمخزون التراكمات التاريخية هو الذي يرسم الصورة الاجتماعية لأي أمة، فبتغير طبيعة هذه التراكمات يعاد رسم الصورة من جديد، وفي عصرنا الحالي بوجود وسائل الاتصال - بل وسائل الاطلاع إن صح التعبير - أصبح التغيير ورفع مستوى الوعي قابلا للحدوث خلال فترات قياسية .


وبالعودة الى مصر الكنانة، متسلحين بالنظرية سالفة الذكر، نجد أن ثوار التحرير ينتمون إلى مجتمع يكاد يكون مختلفا تماما عن المجتمع الذي أنجب أعضاء النظام ، حتى أن اللغة التي يتكلم بها الطرفان لا توجد فيها مصطلحات مشتركة ، ويظهر ذلك جليا في فشل خطابات حسني الخفيف وعمر سليمان وعدم قدرتها على إيجاد أي خط اتصال مع الثوار أو إحداث ثغرة في الجسم الثوري تكسب النظام فرصة تسويف الأوضاع .


خلصت دراسة قامت بها إحدى منظمات الأمم المتحدة العام الماضي إلى أن الشعب المصري هو أكثر شعب مؤمن في العالم، ولا نحتاج إلى دراسة من أي جهة للقول بأنه أيضا من أطيب شعوب الأرض، وهو ما ظهر واضحا في أحداث الثورة، على أن الرسالة التي لم يفهمها النظام هي في مستوى الانضباط غير المسبوق بين شباب الثورة، والتزامهم السلمية، والانتظام وليس التنظيم، واللوحات الإبداعية التي خطوها أثناء تواجدهم في الميدان مثل حملات التنظيف واللجان الشعبية، بعبارة أخرى الشباب أراد أن يبني نموذجا مصغرا داخل الميدان يحاكي شكل الحياة التي يريد العيش فيها، أراد أن يرسم خارطة مصر التي يتمنى أن ينتمي إليها، صفة الوطن الذي يأمل أن يتربى أبناؤه على ضفاف نيله .


الخوض في تفاصيل النموذج الحضاري لثوار التحرير يحتاج إلى كتب، ولن نسهب الآن في هذا الموضوع حتى تكتمل الثورة، لأن القادم سيكون أثمن بكثير من الناحية الإنسانية ، وسنكتفي بتسليط الضوء على ردود أفعال النظام لنثبت أن اللغة والجيل مختلفان .


أخطأ النظام في كل ردود أفعاله وخطاباته بشكل فادح ، لثلاثة أسباب :


أولا : لم يخاطب النظام الثوار أبدا ، فخطابات حسني الخفيف وعمر سليمان كانت موجهة إلى أحزاب المعارضة ، وهذا الخطأ لم يكن مقصودا، ولكن لأن عقلية النظام المتهالك، المهترئ، المسن، لم تفهم مطالب الثوار وجيلهم، فعلى سبيل المثال الحديث عن بطولات حرب أكتوبر لا تشكل بالضرورة أهمية لدى هذا الجيل الذي لم يعش الحرب ، وهو غير مستعد للتنازل عن حقه في وضع بصمته على صفحات التاريخ لأن جيلا قبله خاض حربا. مثال آخر هو تعيين عمر سليمان كنائب لرئيس الجمهورية وتشكيل لجنة للتعديلات الدستورية، وهذه كلها مطالب أحزاب المعارضة ولم يطالب بها أي من المتظاهرين.


ثانيا : الحديث عن المنجزات، وهذا الأسلوب قد يكون مؤثرا في الأجيال السابقة فقط. طبعا لكل نظام سلبيات وسقطات ومنجزات ونجاحات، والقياس هنا نسبي، لكن كل منجزات هذا النظام لم تلامس لا من قريب ولا من بعيد سقف مطالب هذا الجيل.


ثالثا : لغة التعالي ونبرة التسفيه التي كانت السمة المشتركة بين كل رموز النظام ومؤيديه ضد ثوار التحرير سواء حسني الخفيف أو عمر سليمان أو أحمد نظيف أو حتى الفنانين الذين عارضوا الثورة، هذه اللغة التي استفزت الثوار وزادتهم إصرارا ويقينا على المضي قدما في درب الثورة .


وحتى نقرب الصورة أكثر ، لو افترضنا أن النظام صدق في قراراته الأخيرة الخاصة بالتعديلات ، وقام بحل مشكلة تدني الدخل والإسكان والبطالة وغيرها من المعضلات ، فهل كانت الثورة ستنخمد ؟ لا ، ليس لأن للثوار ثأر شخصي مع النظام أو لأنهم أرادوا تقليد السيناريو التونسي بحذافيره ، ولكن لأن المطلب الأساسي المستقر في وجدان هذا الجيل – وإن كان في عقلهم الباطن أحيانا بدون أن يصاغ بشعارات تخرج من الأفواه – هو الحرية، حرية العقل، حرية التفكير والتعبير والمشاركة في صناعة التاريخ، هذا الجيل يرفض أن يكون أعدادا تحصى وأرقاما وطنية فقط ، مطالب هذا الجيل تعدت حتى ما لم يتحقق له، ثوار التحرير لم يخرجوا من أجل الرواتب أو الوظائف أو السكن مع أنهم لم ينعموا بهذه الحقوق، بل انتفضوا طالبين الحرية بمعناها الحقيقي، مطالب هذا الجيل تتعدى سقف أحلام الأجيال السابقة.


ومما يدل على أن هذه الثورة تمثل صراعا بين جيلين، هو موقف الأحزاب السياسية من الثورة ، حزب النظام ومؤيديه، وأحزاب المعارضة ومواليها، جميعهم يتحدث نفس اللغة، كلهم يمارسون النفاق السياسي بصفاقة سواء وصفت بيمينية أو يسارية، غالبية أحزاب المعارضة أصدرت بيانات قبل الخامس والعشرين من يناير تبين عدم رغبتها في المشاركة بالتظاهرات، وبعد صمود الثوار الشباب خلال اليومين الأولين، سارعت قيادات هذه الأحزاب للنزول إلى الميدان وركوب الموجة، فقامت بمحاولة مصادرة الثورة لصالحها عن طريق المهرجانات الخطابية التي انفض الشباب من حولها، لأن هذه الأحزاب ببساطة تتكلم اللغة نفسها التي يتكلم النظام بها وتنتمي إلى الجيل نفسه ، وحين اتصل بهم عمر سليمان من أجل التفاوض تراكضوا مسرعين وراء مطالب لم تكن في أجندات الشباب أصلا .


وبعدها بأيام، وبعد أن اشتد عود الثوار، أطلت علينا فئة سمت نفسها لجنة الحكماء بغرض التفاوض مع النظام، لم تكن المشكلة في نية شخوصها، بل في جيلهم، فمجرد التسمية ( الحكماء ) أثارت حفيظة الشباب وكأنهم سفهاء يحتاجون لحكماء حتى يحققوا مطالبهم، رفض الشباب هذه الوصاية والتعامل مع هذه اللجنة التي تشترك مع النظام في الجيل واللغة.


ومن هذه الأحداث يتبين أن هذه الثورة أطاحت بكل الجيل السابق ورموز النظام السياسي في مصر، حكومة ومعارضة .



بقي أن نوضح نقطة في غاية الأهمية، وهي أن ثورة الجيل على الجيل السابق ، ليست صراع صواب ضد خطأ ، أو حق ضد باطل ، والموضوع بعيد عن قياس النوايا أيضا ، وليس كل شخوص وعناوين الجيل السابق خطائين ، وليس كل ثوار هذا الجيل معصومين ، ولكن من حق هذا الجيل أن يأخذ فرصته، ومن أراد أن يرى بعينه مشهد لصراع الأجيال ، فليتابع ما حدث بين الثائر وائل غنيم والشيخ يوسف القرضاوي على منصة التحرير

 

 





الاثنين٢٥ ربيع الاول ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٨ / شبــاط / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب عمر العكيدي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة