شبكة ذي قار
عـاجـل










دأب المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، في ليلة السابع والعشرين من رجب، من كل عام هجري، على الاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج، الذي كان تكريما من رب السماء، لخير أهل الأرض والسماء، بعد تعرضه لـ (الاضطهاد الديني) أثناء دعوته في مكة، وكأنها رسالة تقول له: إن كان أهل الأرض قد اعرضوا عنك، فإن أبواب السماء مفتوحة لك، وقد وصف الله –تعالى- في قرآنه الغاية من الرحلة بقوله: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا } [الإسراء: 1] ، و {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } [النجم: 18] ، والآيات التي رآها عند عروجه إلى السماوات العلى، وذلك العالم الغيبي المجهول لنا، هي مشاهد عظمى، وصور خالدة، كرؤية الأنبياء، والجنة والنار، وسدرة المنتهى، وكان من هذه المشاهد والصور رؤية الفرات والنيل.

 

جاء في الحديث أن رسول الإسلام رأى الفرات والنيل عند أصل سدرة المنتهى، وأنهما ينبعان من الجنة:

عن أَنس بن مالك، عن مالك بن صَعْصَعَةَ – رضي الله عنهما- أَنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " ... ثُمَّ رُفِعَتْ لِيَ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى ... وَإذَا في أْصْلِهَا أَرْبَعَةُ أَنهار: نَهْرَان بَاطِنَانِ، وَنَهْرَان ظَاهِرَانِ، أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَفِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالْفُرَاتُ وَالنِّيلُ ..." ، وقد ذكر المحدثون اسمي النهرين الباطنين في الجنة، وهما الكوثر والسلسبيل، وفي حديث آخر أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أربعة أنهار من الجنة" وعد أولها: الفرات، والنيل.

 

وفي الكتاب المقدس لدى اليهود والنصارى (سفر التكوين 2: 14) : فإن الفرات يعد أحد أنهر جنة عدن.

 

أما الصابئة المندائية فهي أشد الأديان تقديساً لنهر الفرات، حيثُ يتم التعميد في ماءه لدخول هذا الدين، وأنه أحد أنهار الجنة، وقد جاء في نص من كنزا ربا: "صغيراً أنا بين الملائكة الأثريين، طفلاً أنا بين النورانيين، ولكني أصبحت عظيماً لأني شربت من ثغر الفرات" .

 

ولله سر في تمثيل الفرات وأخيه النيل، لرسوله -صلى الله عليه وسلم- في السماء، في تلك الليلة العظيمة، وهذا السر هو:

 

1- أن هذين النهرين يشبهان أنهار الجنة في الصفة والعذوبة والبركة، وكثرة الخيرات، والنفع للناس.

إنهما نعمة عظمى أنعم الله بها على عباده في كل من وادي الرافدين، ووادي النيل. وبالتالي فالدفاع عن هذين البلدين وما بينهما، وما حولهما، دفاع عن الجنة!!

 

2- قيل: في قوله: (الفرات والنيل من انهار الجنة) حذف، والتقدير " الفرات والنيل من أنهار (أهل) الجنة" ، فرؤية النهرين الخالدين، ليلة الإسراء والمعراج، كان بشرى من الله –تعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم- أن أهل هذين البلدين سيؤمنون، ويكونون من أهل الجنة.

 

3- يخبر الله –تعالى- أنه فضل بعض الرسل على بعض كما قال : ( ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض) [ الإسراء : 55 ] و ثبت في حديث الإسراء رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- الأنبياء في السماوات بحسب تفاوت منازلهم عند الله -عز وجل- فمن رآه في السماء السابعة أعلى مقاما ممن رآه في السادسة، ومن رآه في هذه أعلى ممن في الخامسة، وهكذا، وقد رأى الفرات فوق السماوات، في أصل سدرة المنتهى، التي ينتهي إليها علم الخلائق، فلا يعلم احد ما وراءها، فالفرات هو المخصوص بأعلى الدرجات، وعندما نقول الفرات فإنما نعني بذلك أهله، الذين هم ذروة تلك الرحلة الأرضية- السماوية!!.

 

ذكر الفرات يعني ذكر دجلة أيضا:

ذكر الفرات يعني ذكر دجلة أيضا؛ لأنهما يشكلان ثنائية، يسمى فيها أحد الاثنين باسم الآخر، وهو أسلوب معروف في العربية، فيقال: الفراتان، كما في ثنائيات أخرى، مثل:

 

القمران: الشمس والقمر، وقد نسبا إلى احدهما، وهو القمر.

العمران: أبو بكر وعمر بن الخطاب –رضي الله عنهما- ، وقد نسبا إلى احدهما، وهو عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- .

 

الحسنان: الحسن والحسين ابنا علي بن أبي طالب –عليهم السلام- ، وقد نسبا إلى احدهما، وهو الحسن –عليه السلام- .

البصرتان: البصرة والكوفة، وقد نسبتا إلى إحداهما، وهي البصرة.

 

فالفرات هو دجلة، والعكس، وكل ما يقال عن الفرات يقال عن دجلة.

وقد تكرر في القرآن وصف الماء الوافر، والشديد العذوبة بأنه (فرات) ، كما في هذه الآيات:

 

1- {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 53] .

 

2- {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [فاطر: 12] .

 

3- {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} [المرسلات: 27] .

 

فأبلغ وصف للماء قرآنيا هو أنه فرات، وكأن الماء درجات متفاوتة، أعلاها الفرات؛ أخذا من ذاك الذي به حياة العراق ومحيطه.

 

ذكر الفرات يعني ذكر أرض وشعب الفراتين:

للفراتين شرايين وأوردة ممتدة على طول أرض الفراتين وعرضها، فليس مقدسا ومباركا وطاهرا مجرى النهرين فقط، بل كل أرض العراق، وهي المحضن الرباني للشعب العراقي الذي استمدت قدسيتها وبركتها وطهرها منه، فطوبى لهذا الشعب (الرباني) ، و (الأرض الربانية) ، وليعلم أعداء العراق، المحاربون له، الساعون إلى تقسيمه، وإشعال نار الفتنة فيه، أنهم بذلك أعداء الله، ومحاربون له، ويؤذنه –سبحانه وتعالى- وان مولى العراق، وهو الله –جل جلاله- لن يدعه وحده في الميدان، {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا } [الحج: 38] .

 

بلدان المشرق العربي بلد واحد:

يتكون المشرق العربي من جزيرة العرب، والعراق، والشام، ومصر، وهذه البلدان وإن تعددت فهي بلد واحد، ولعل في الربط بين مكة والقدس معانقة بين جزيرة العرب والشام، والربط بين الفرات والنيل معانقة بين العراق ومصر، فتكون رحلة الإسراء والمعراج قد رمزت إلى بلاد العرب الأربعة الأصلية.

 

وبما أن هذه البلدان بلد واحد فقد كان خليل الله إبراهيم، وهو عراقي ينتقل من بلده العراق إلى الشام، فهو شامي، ثم إلى مصر فهو مصري، ثم إلى الحجاز فهو حجازي. ومثل هذا يقال عن ابن أخيه، نبي الله لوط –عليه السلام- فإنه عراقي، انتقل إلى الشام ليدعو إلى ربه، فسمى الله –تعالى- الذين دعاهم (قومه) كما في قوله –تعالى- : {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ } [الشعراء: 160] ، وكان هذا حال النبي محمد –صلى الله عليه وسلم- فهو مكي، ثم مدني، وهذا حال أهل بيته وأصحابه، فابن عمه الإمام علي: مكي- مدني- عراقي؛ لأنه من أهل مكة، وأقام في المدينة، ثم في العراق، وبلال الحبشي مكي- مدني- فلسطيني؛ لأنه من أهل مكة، وأقام في المدينة، ثم في فلسطين. والأمثلة كثيرة.

 

إن هذه البلدان اليوم مطالبة أن تظهر وحدتها بأنصع ألوانها، وأبهى صورها، وأجمل حللها -وهي حقيقة وليست ادعاء- ، عبر إسناد الشعب العراقي في حربه المفتوحة مع العدو: الصهيوني- الأمريكي- الفارسي، والوقوف إلى جانبه في محنته، ومساعدة حركة التحرر فيه، وهو الذي ما بخل عليها يوما بمساعدة. وهل عيب أن يكون معنا أهلنا؟! وهل في ذلك سبة؟! ألم يكن سعد بن أبي وقاص، والنعمان بن مقرن، وحذيفة بن اليمان، وأبو عبيد بن مسعود الثقفي، وسليط بن عمرو، والبراء بن مالك، وغيرهم من الصحابة الذين نزلوا العراق فاتحين، ألم يكونوا (مقاتلين عرب) خلصوه من الهيمنة الفارسية؟! ثم ألم يكن الأئمة: علي بن أبي طالب، والحسن والحسين، وابن عباس، وعمار بن ياسر، وقيس بن سعد بن عبادة، والقعقاع بن عمرو التميمي، وأمثالهم من رماح الله في الأرض، ألم يكونوا (مقاتلين عرب) أقاموا في العراق آخر خلافة راشدة، تحمل هدي وميراث وراية النبوة؟!

 

 





الاربعاء ٢٦ رجــب ١٤٣٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٥ / حـزيران / ٢٠١٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. ثامر براك الأنصاري نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة