شبكة ذي قار
عـاجـل










مصر وسوريا والعراق ثلاث مراكز حضارية عميقة اشتركت في التاريخ والعطاء ثم جمعتها ثورة الإسلام المحمدية بمركز واحد تحت قيم الحرية والتجديد والانقلاب على العبودية والظلم، هي كانت مشتركات إنسان هذه البقاع الجغرافية وتمزقت بفعل ما صنعه الاستعمار. ثم أصبحت مصر رائدة النهضة العربية الجديدة منذ أوائل القرن العشرين التي سرعان ما امتدت إلى الشام والعراق. وقفت دول وقوى كثيرة لمنع وحدة هذه المراكز الحضارية الثلاث لكي لا تشكل انعطافة هائلة في نهضة أبناء هذه المنطقة.


التذكير بهذه البديهية التاريخية مهم بعد طوفان التجزئة الذي عجز المشروع القومي العربي عن إزالة مرتكزاتها، وبعد إحياء قوى التفكيك الإثني والعرقي النائمة لقرون، لتهيمن على الواقع السياسي العربي في أهم بلدانه خصوصاً برغبة وطموح القوى الدولية والإقليمية وعلى رأسها الولايات المتحدة وإيران كل لمصالحه الخاصة. هذه القوى لم ينقطع حلمها يوماً للهيمنة أو الاحتلال المباشر إذا تطلب الأمر مثلما حصل في العراق من قبل أميركا 2003 والتي لم تخرج قواتها إلا بعد اطمئنانها بأن هذا البلد تم سحق دولته وجيشه الوطني، وأنجز عملياً مشروع تفتيته ومحو هويته وقوته الناهضة، ومنع وصول قوى سياسية مناوئة لمشروع التمزيق والاحتراب الطائفي فيه. وتم التعجيل والمساعدة على دخول الإخوان المسلمين في حكم القاهرة، بعد استثمار حالة ضعف قدرات الشباب الثوري المصري التنظيمية في إدارة الحكم البديل لحسني مبارك في بلد ضخم ومهم كمصر.


وبعد عملية تدجين مكثّفة لإخوان مصر إلى جانب ما اشتغلوا عليه في بغداد بشراكة فعلية مع طهران الطامعة بالعراق، وتعطيل انتقال دمشق رغم أن حالتها أصبحت أقسى وأمر من حالتي شعب مصر والعراق لعدم وضوح أدوات التغيير، ولأن الكبار لا يثقون بثورة جيل الشباب الجديد، هم يبحثون عن أدوات سياسية سهلة جائعة ومتعطشة للسلطة. عنصر مهم آخر عطّل الحل السوري هو طهران الماسكة بالعراق والطامحة بدور محرّك ورائد في المنطقة إلى جانب صحوة موسكو الضائعة بعد أضخم عملية تفكيك تعرض لها جسمها الكبير ( الاتحاد السوفييتي ) لتجد نفسها فجأة أمام كرسي شاغر للعب دور خطير ومنافي لآمال الشعب السوري في ملف انتقال السلطة إليه ..


لم تخش أميركا من تمدد موجة الحكم الاسلامي إلى القاهرة وبغداد، لأن عقول أهل واشنطن الاستراتيجيين وجدوا بأن البحر الهائج سرعان ما ستنسحب أمواجه وتترك على حافاته بقايا سقط المتاع، وخيبات فشل مرير وسريع أمام مطالب الناس في الخبز والخدمات والحرية والكرامة. فمرسي المنتعش بكرسي رئاسة أكبر دولة عربية تحت عنوان « الإخوان المسلمين » كان همّه بعد خطف ثورة شباب مصر هو كيفية تعميم هيمنة جماعته الحزبية على مساحة مؤسسات الدولة والمجتمع وتناسى إن الشعب الذي رّكع أعتى نظام دكتاتوري مستبد ومسنود إقليمياً ودولياً، لم يذهب شبابه للسياحة والاستجمام في ميدان التحرير. لم يستوعب الحاكم الجديد محمد مرسي المعنى الحقيقي للاعتصامات والتظاهرات المليونية، كان يعتقد أنها نهاية الثورات وأنه قطف ثمارها ووثق حكمه عبر الانتخابات « الديمقراطية » مثلما سيطر ذات الوهم على أمثاله من الحكام في بغداد. وهمٌ يقول بأن لا ثورة شارع بعد سلطة حزب الحاكم وطائفته، ولا شعب يلوي ذراع السلطة «المنتخبة»، مع إضافة أخرى هي ما تفعله الطائفية من خدمة في إطالة زمن حسم المطالب، وتحجيم أعداد الملايين.


حكام دمشق وبغداد والقاهرة رغم اختلاف ظروف حكمهم يشتركون في صفة تجاهل إرادة الشعب، حتى وإن انتقلت من المعارضة الصامتة إلى التظاهرات والاعتصامات، ويشتركون في وصف تلك الانتفاضات المشروعة بأنها مدفوعة الثمن من الخارج، وإنهم محاطون بمؤامرات كبرى، مع أن خلف الكواليس تتم صفقات سخية مقابل الحفاظ على كراسي الحكم.


لكن المفاجأة الكبيرة والتي هي ليست كذلك عند الكبار بأن الديمقراطية وفن إدارة الحكم عقب عقود من قهر واستبداد الدكتاتوريين ليست في الاستسلام لطقوس صناديق الاقتراع المبرمجة مثلما حصل في العراق خلال السنوات الأخيرة أو في مصر قبل عام، لأن سلطة ما بعد الانتخابات ليست مطلقة اليد في سلب الشعب مجدداً لكرامته، أو منع حصوله على حقوقه المشروعة في الحياة الحرة الكريمة، أو في إطلاق العنان لمافيات الفساد ونهب الثروات المالية وتخريب البلاد تحت شعارات « الدستور والقوانين والانتخابات »، فرصة الحاكم الزمنية أمام الشعب قصيرة جداً حتى لو لم تكن الظروف الاقتصادية ملائمة مثلما عليه الحال في مصر.


ولهذا يقع السقوط سريعاً ودراماتيكياً مثلما يحصل اليوم للزعيم الإخواني محمد مرسي . فخروج الملايين في القاهرة وجميع المحافظات المصرية في تجديد ثورة يناير مطالبة بتنحي مرسي عن الحكم، تعني فشله أمام الشعب، وهزيمة حكم الإسلام السياسي، وسيتدحرج هذه الفشل سريعاً نحو العراق والشام ..


الدروس المستخلصة من هزيمة حكم الإخوان المسلمين في مصر ومن انسداد أزمة الحكم في العراق خلف متاريس الاستفراد، أو في إصرار حاكم دمشق على البقاء في كرسي الحكم حوّل سوريا إلى رماد ملوّن بالدم هي:


أولاً - أن لعبة الديمقراطية في عالمنا العربي لا تحمي الحاكم من الوقوع في شراك الحكم الفردي الظالم وعدم الإنجاز، أو في فتح أبواب الفساد تحت محصنات تلك العناوين الشكلية.


ثانياً - لقد انفتحت أبواب الثورة الشعبية الشبابية الجديدة، ولم يعد الشارع ساحات رعاع مثلما يصفه الحكام المستبدون، وإنما هو الرئة الواسعة التي تتنفس الحرية في صدور الجياع والمظلومين وضحايا القتل والفساد والبطالة.


ثالثاً - لا يقع الحاكم بعد مرحلة الانتفاضات الشعبية الجديدة في وهم أن حكمه هو نهاية الثورات مثلما فعل مرسي، أو مثل من استورث الحكم عن أبيه أو من استلم السلطة بقوة «احتلال أكبر جيوش العالم»، يتوهم هؤلاء الحكام بأنه يمكن مصادرة قرار الشعب بقوة السلاح أو بخطابات إعلامية لا تقنع اليوم طفل الفيسبوك واليوتيوب. فالشعب هو المصدر النهائي للسلطة، وليست مؤسسات البرلمان المدجنة والشكلية أو بقية المؤسسات الحكومية المقهورة. والقهر والظلم له نهاية سريعة، وحين يتظاهر الشعب فعلى الحاكم الخضوع لإرادته .

 

رابعاً – مهما احتوت الحالة المصرية من خصوصية لكنها تقع ضمن نفس معايير الرضوخ للإرادة الشعبية .. سنسمع تبريرات واهية بأن الحالة المصرية هي ليست حالة بغداد أو دمشق أو غيرهما . وذلك في إطار الدفاع عن النفس عند نقطة حافة الهاوية .


خامساً - الجيوش الوطنية خصوصاً في مثلث القاهرة وبغداد ودمشق بنيت على عقيدة حماية الوطن والمواطن وهي الخزان الكبير والملاذ النهائي عند المحن والملمات، والعمل القذر بحل الجيش العراقي من قبل المحتل ودعم ورعاية المستفيدين المحليين والإقليميين كان المقصود منه وضع الشعب في حالة ضياع بمتاهات التخندق الطائفي والعرقي. ولهذا تم تصنيع جيش أصبح بيئة للمليشيات الطائفية المنفذة لإرادة أحزابها، وطرفاً إلى جانب الحكومة ضد الشعب يقتل أبناءه إذا أمره الحاكم مثلما حصل في الحويجة، ويحرق البيوت بساكنيها بصورة جماعية مثلما يحصل اليوم في سوريا دفاعاً عن الحاكم وليس الشعب ..


الجيش المصري أعطى المثل الفريد والدرس التاريخي في الوطنية الصادقة حين وقف إلى جانب مطالب الشعب حين تدلهمّ المحن بسبب السياسيين. وظل صامداً على عهده ولهذا استحق خروج ملايين المصريين إلى الشوارع خلال ساعات تحية له. الدرس المصري يجد صداه في بغداد ودمشق لمن يسرع في التقاط معانيه قبل فوات الأوان ...

 

 

 





الخميس ٢٥ شعبــان ١٤٣٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٤ / تمــوز / ٢٠١٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. ماجد أحمد السامرائي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة