شبكة ذي قار
عـاجـل










تمر علينا هذه الأيام ذكرى إستشهاد أحد فرسان البعث العظيم، الشهيد المناضل البطل محمد سليمان الخليفة عبدالله التعايشي ( رحمه الله ) ، الذي كون أول خلايا حزب البعث العربي الاشتراكي بقطرنا الحبيب السودان، لقد جسد الشهيد الخيط الرابط والقنطرة الواصلة بين الثورة المهدية والثورة العربية المعاصرة، فلقد تنسم شهيدنا عبق الثورة المهدية من مصادرها الأولى فإستجاب بعفوية لنداء الجذور العميقة الضاربة في أرض اللغة والتاريخ، ولرسالته الدينية التي تجمع بين شقي الزمن والجغرافيا، وبين أعظم تجليات الحركة الوطنية السودانية، كما جسدتها حركة البعث في مواجهة الرموز السلبية الداعين إلى تفريغ ثورتة من دلالاتها الوطنية بإسم الإستقلالية الزائفة وإنكار دلالاتها العربية بإسم الإسلامية المجردة قسراً عن حاملها القومي.

في وعي تلاقح البعدان الوطني والقومي كمحرك للنضال يستمد وقوده من تجربته الشخصية وتجربة شعبه الرافض الجذري لتشويه تاريخ الثورة المهدية، والرافض حينها للإنفصال الرجعي في سوريا عام 1961م كحل زائف لإشكاليات التطور القومي نحو الوحدة بين سوريا ومصر، فلقد كان لكل ذلك تأثيراً مدمراً في السودان سواء كان داخل جامعة القاهرة/فرع الخرطوم ( جامعة النيلين حالياً ) حيث كان يدرس الشهيد أو خارجها.

فلقد وجد الشهيد البطل ورفاقه في مواجهة السلطة المحلية الرجعية وفي الوقت نفسة تحمل مسؤولية حماية سمعة حركة الثورة العربية بمجموعها بالدفاع عن ثورة 23 يوليو في وجه أعدائها من اليمين الإخواني واليسار الشيوعي، وفي وجه عدائها لنفسها تجاه أجهزتها الإدارية بعملائها الصغار ذوي الضجيج العالي.

حينما تقدم الشهيد محمد سليمان الخليفة الصفوف أمام زملائه ورفاقه في ( الطليعة التقدمية العربية ) وغيرها من تنظيمات ( الإشتراكيين العرب ) الطلابية في ذلك الوقت حتى تكسرت النصال على النصال و إستحال عليه إكمال دراسة القانون في جامعة القاهرة/الفرع.

كثير من الرجال يولدون، ويدبون على هذه الأرض كدبيب النمل، ويمرون على هذه الحياة كلمح البصر، ويسيرون بين أمواج البشر، وهم الأغلبية الساحقة من هذه المخلوقات البشرية، ولكنهم القليلون الذين يتركون اثراً، ويشقون طريقا، وينحتون مجدا، ويصنعون تاريخاً، وتبقى ذكراهم مخلدة على مر التاريخ، هم صناع التاريخ ورموزه، وهم عباقرة الأرض، والقديسين عليها، بما اعطوا للبشرية، وقدموا للإنسانية، وهم أنبياء الأرض بدون أن تكون بأيديهم ديانة سماوية، لأن الديانات الأرضية التي امتلكوها، واعطوا عصارتها للإنسانية، كانت تضيئ طريق الحياة، والمجد والمستقبل لكل الناس، وخاصة للذين يؤمنون بافكارهم ومبادئهم، لأن الديانات الأرضية، بما تمتلك من أخلاق ومبادئ، تعتبر استكمالا لما جاءت به الديانات السماوية، وهي لا تتقاطع معها، بل تعتبر نموذجا ابداعيا للعقل الانساني، الذي ابتدعه الخالق، واودعه اكرم خلقه، ولكن هذا العقل قد تتفاوت قدراته بين واحد وآخر، وقليل ممن يمتلك عقلا تنضج فيه المعرفة، من بين كل هؤلاء المخلوقات البشرية. من قلب المعاناة، معاناة الذات، ومعاناة الأمة، ظهر الطفل يصارع الحياة، فامتزجت معاناة الذات بمعاناة الأمة، وترعرع في هذه الحياة، التي كانت تصارع فيها الأمة من أجل وحدتها وحريتها، وعدالة الاجتماع فيها، لأنها كانت الأمة الوحيدة التي استهدفت في جوهر بنائها، فكان أن وجد المبادئ التي تلبي رغبة شبابه، وتجيب على الأسئلة التي كانت تدور في مخيلته، لتعطي لإرادة الشباب ما يمكن ان يحقق طموح أمته وشعبه، من خلال النضال الوطني والقومي، الذي وجد فيه الطريق الذي سيحقق الطريق ما تصبو اليه النفس التواقة، بالارادة والايمان والعزيمة، التي ستنجز للأمة اهدافها، فكان البعث طريقه الذي كان يرى فيه الإجابة على كل الأسئلة المحيرة للنفس، والقادرة على أن توصله إلى نهاية الطريق لبناء أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة.

محمد سليمان الخليفة عبدالله التعايشي واحد من التي انجبتها الانسانية، وبشكل خاص امتنا العربية، فقد امتلك ناصية العلم والمعرفة والخلق والشجاعة، وامتلك ارادة التحدي والانتصار بالمبادئ على الذات، و قد عزز ما امتلكته ارادة التحدي التي امتاز بها، قوة الايمان بالمبادئ التي آمن بها، فزاوج بين الايمان بالمبادئ الإلهية والمبادئ الأرضية، حتى استطاع أن يكون معلما في جوانب الحياة، بشتى صنوفها وانواعها، فاخاف اعداءه قبل ان يبهر رفاقه ومريديه، بسعة العقل وقوة الادراك.

ولد الشهيد في يوم الإثنين الموافق 14/9/1940م، بحي الأمراء بأم درمان في ذات المنزل الذي قضى فيه جده لأمه، الأمير يونس ود الدكيم، السنوات المتبقية تحت الإقامة الجبرية التي فرضها عليه الإنكليز. عندما كان عمره 9 سنوات كان رئيساً للجمعية الأدبية، وكان إهتمامه بالقراءة والإطلاع كبيراً جداً، وإلتحق بمدرسة الفاروق ( القبطية حالياً ) وعمره 12 عاماً، إرتبط بحزب البعث منذ إرهاصاته في أوائل الستينيات وهو طالب في جامعة القاهرة فرع الخرطوم ( النيلين حالياً ) ، ومن ثم انتقل لجامعة دمشق عام 1964م حيث اضطر لقطع دراسته لتفرغه للعمل الحزبي السري في دمشق بعد إنقلاب عام 1966م ضد سلطة الحزب، أنتخب عضواً في القيادة القومية لحزب البعث العربي الإشتراكي في فبراير 1968م، وفي نفس العام إنتقل الشهيد إلى بغداد بعد ثورة 17 – 30 من تموز المجيدة في العراق، يتألق عبرها في إتجاه الساحة السودانية كاشفاً أخطار ولادة 25مايو الناقصة والمشبوهة، أثناء إحدى زياراته المتكرره للسودان أعتقلته السلطة الجديدة ضمن عدد من أفراد أسرة الخليفة إبان حوادث ( ود نوباوي ) عام 1970م. أطلق سراحه بعد تدخل الشهيد فاروق حمد الله مشيراً لذلك الإعتقال بعاهة التخلف الفكري التي لازمتها منذ البداية وجعلتها عاجزة عن التمييز بين شعور الثورة المهدية التي يحملها بعض أبناء الأسرة أسماء وأشكالا وشعارات وجورا، والنضالي الذي تحمله قاعدتها الجماهيرية مع قلة من أبناء الأسر الآخرين.كان الشهيد رمز التوحد بين ومعنى الإسم، بين التاريخ الحي في فعل الحاضر وصورة المستقبل، فقد كان يرى قبل الإعتقال وبعده، بعين الوعي المبكر الذي توصل اليه الرفاق البعثيين في السودان بعد اسابيع قلائل من بزوغ الفجر المايوي الكاذب، آخر الطريق الذي ستقود اليه عاهة التخلف الفكري والولادة المشبوهة:- ( السقوط الكامل في اسر التحالف البيروقراطي – البورجوازي ومن ثم الإرتداد نحو المواقع اليمينية لحاملي الأسماء والأشكال والشعارات بأسم المصلحة الوطنية والنهج الإسلامي بعد صراع زائف بين الطرفين دفعت ثمنه جماهير الحركة الوطنية.

وعندما أستجاب بعد ذلك لصيحة ( وامعتصماه ) الصادرة في يوليو/تموز 1971م آخر وقفة لقوى الخير أمام التقهقر المايوي المحتوم نحو الردة، محلقاً في سماء الإلتزام البعثي، فقد كان يرتفع بإنتمائه الوطني – القومي ويتسامق الى الذروة النضالية التي يتحقق عندها الإتصال الحميمي والكامل مع روح التراث الخالد وهي الإستشهاد … اما في مشهد السقوط المفاجئ للطائرة، كانقضاض النسر من الذرى نحو الفريسة، فقد بدأ وكان اختياره الطوعي للإستشهاد طريقاً للموت، كما هو الحال مع كل من يختار الإنتماء للبعث، يتجاوز معنى الإنسجام بين عظمة الحياة وعظمة النهاية إلى الشكل نفسه في تلك اللحظه عاد الجد ليحيي في الحفيد عبر أختيارهما المشترك للمعنى والشكل، للإستشهاد وشكل الإستشهاد.

عاش حياته بالتحدي والانتصار على الذات، فاكتسب مراسة في الحياة وعزز على الدوام إرادة الإيمان، التي كانت عميقة في صدره، فاعتركته الحياة، كما كان صلبا لا ينكسر أمام أهوالها، وجعلت منه كالقديسين في ممارساته وسلوكياته، فعافت نفسه كل رذيلة تحط من قدر الانسان، كيف لا وهو القائد القدوة والرمز لرفاقه، مما جعل منه متقدما على جميع رفاق حزبه، واكتسب محبتهم وتفانيهم واخلاصهم في القبض على جمر المبادئ، فتسابقوا على حمايته، من خلال اعلان الولاء والاخلاص لما آمن به من مبادئ.

الأمة الولود لن يكون في مقدورها أن تنجب كل يوم عظيما من بين أبنائها، ومن هنا كانت ولادة رجل عظيم كولادة صدام حسين، عزيزة على قلوب الأمة، وقد ترك رحيله درسا لأبناء الأمة، وكما يقول هو المنية ولا الدنية، فإرادة الشجاعة وارادة الإيمان تقبل عن طيب خاطر، تقدم الشهادة على أن تسلم المبادئ، او تنتكس الرايات، ألم نجد مثل ذلك في شهداء مؤته، وقد تكرر ذلك في موقف الشهيد بطريقة أخرى في مواجهة الاستشهاد على المنصة التي واجهه فيها ملك الموت.

في ذكرى رحيل رجل عظيم، نوطن النفس على ان تكون ذليلة أمام مغريات الدنيا، ومتطلبات الحياة الانسانية الزائلة، لان البقاء للمبادئ التي تشكل بوصلة الطريق لنهوض الامة، التي تسعى ان تنهض من كبوتها، من أجل تحقيق وحدتها وحريتها واستقلالها، وحياة حرة كريمة لجميع ابنائها.

يدور التاريخ صاعداً نحو الأعلى ولا يتكرر، تذوب الحدود بين الأسماء والأمكنة التي تفترق منها ذاكرة التاريخ المكتوب إلا القليل ( بغداد .. هارون الرشيد .. صدام حسين .. أم درمان .. المهدي .. محمد سليمان ) تتصل الدوائر فيتعذر التمييز بين أولها وآخرها وتتوحد منابع الأنهار ومصابها .. يتسع الوطن ويترامى ويتسع الحزب ويترامى وعندما ينهض الشهداء .. الأحفاد على حدود الوطن الشرقية فتتلاحم سيوفهم مع سيوف الشهداء الأجداد على حدود الوطن الجنوبية فتمتزج اللهجة باللهجة والإيقاع بالإيقاع، وإذا بترنيمة غامضة تشرق من أفق التاريخ البعيد وتظل ترتفع متوحدة في لحن لا تتميز فيه المناحة عن الزغرودة، ولكن الأذن العربية الفصيحة تستبين في كلماتها مقطع الأغنية الدينية النابعة من وعي المتصوفة السودانيين بدور التفاعل القومي ـ الديني بين الفرات والنيل :-

( ساكن بغداد في كل بلد سوالو ولاد )

ختاماً اقول : ( الشهداء لا يموتون .. إنهم أحياء بفكرهم ونضالهم وعطائهم الإنساني .. لذلك فإنه محمد سليمان الخليفة سيظل في ضمير شعبه وأمته .. ملهماً للأجيال من المناضلين.

إن حياته ليست مثل البرق، تضئ لحظة ثم تنطفئ، بل هي إشعاع مستمر يستمد ضوءه من شمس لا تغيب .. شمس الوحدة والحرية والإشتراكية ) .





الاحد ٩ ذو القعــدة ١٤٣٩ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٢ / تمــوز / ٢٠١٨ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب رامي عابدون نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة