شبكة ذي قار
عـاجـل










بمناسبة

في ذكرى رحيله...

القَائِـدُ المُؤسِّسُ أحمَد مِيشِيل عَفلَق

وقَضِيَّتَي الأصَالة والمُعَاصَرة

 

الجزء الثاني

القَائِدُ المُؤسِّسُ ونَظرَتُهُ إلَى التُرَاث

د. محمد رحيم آل ياسين

                                                  

يُشكِّل التراثُ أهميَّةً كُبرى في حياةِ الأُمَمِ والشعوبِ لأنَّه يُمَثِّل المَرحلة المُتَميِّزة والمُشرقة من حياتها، فكلّ الحقائق تُظهِر لنا أنَّ التراثَ هو الأساس الرُّوحي والكيان المعنوي للأمَم والشعوب. أمَّا بالنسبة الى الأمَّة العربية فهو يُشكِّل العمق التاريخي لها، وما كانَ لها من المستوى الابداعي المُتَمثِّل في حضارتها الانسانية الكبرى، وهو يُعتَبر المُكوِّن الأساسي لشخصيَّتها الحضارية، كما يُشكِّل التراثُ الملامحَ القوميةَ للأمَّة، فمِن خلاله يُستَدلّ على وحدتها ، وهو بعد ذلك يدفع بالمجتمع الى طريق التطوّر والنهوض الحضاري من خلال اكتشاف تلك الجوانب المُشرقة في هذا التراث.

هذه كانت نظرة القائد المؤسِّس رحمه الله. من هنا جاء التراثُ مكوِّناً أساسياً في فكر حزب البعث العربي الاشتراكي، فالاهتمام بالتراث يعتَبر قضية جوهرية وأساسية في الانبعاث الجديد للأمة، وفي مستقبل أبنائها، وتالياً فهذا المستقبل يرتكز على أصالةِ هذه الأمَّة وخصوصيَّتها ومكانتها المرموقة بين أمَم وشعوب الأرض.

وهذا التراث كما يراه المؤسِّس رحمه الله، ليس هو النِتاج الفكري المُتَبقِّي من حياة الأمة وتاريخها السابق بمعزلٍ عن حياة الأمَّة اليوم ونضال جماهيرها. بل هو الصلة والعلاقة الحميمية الحَيَّة بماضي الأمَّة المُشرق، ووفق هذه النظرة فقد تَميَّزَ البعث بتَفعيل وتَثوير واقع الأمَّة المتردِّي، ليتَحوَّل من واقعٍ مُتَردٍ تعيشه الأمَّة الى استراتيجيات ثورةٍ وبناءِ حضاريٍّ لها. فنظرةُ القائد المؤسِّس الى التراث تُمثِّل الصلة الحَيَّة بين الأصالة والمُعاصرة، في سبيل انبعاث الأمَّة من جديد لتأخذ مكانتها اللائقة بين الأمَم المُتقدِّمة، عندما ترتقي من جديد وتقضي على جوانب تخلفها وتكون بمستوى الابداع والنهوض الحضاري.

والتراث يمكن تعريفه بأنَّه: الماضي الحضاري، والنتاج الحضاري، للأمَّة العربية، ويُمثِّل أثمَن شيء في حياتها، وهو داخلٌ في حاضرها، مُؤثِّرٌ في تربية ابنائها وفي تكوين شخصيَّتها وفي آمالها وتطلعاتها كما جاء في التعريف ببعض المصطلحات من اصدارات البعث. من هنا نتفهَّم أنَّ التراثَ ليسَ بُعداً تاريخياً في حياةِ الأمَّةِ، بل هو حياةٌ بحدِّ ذاته، وهذا ما سنتعرَّف عليه في الأسطر اللاحقة.

يقول المؤسِّس رحمه الله: نحنُ أمام التراث كما نحنُ أمام مراحل حياتنا وتطورنا منذ ولادتنا حتى اللحظة الراهنة، وحتى آخر ومضةٍ في حياتنا في المستقبل. فالتراثُ امتدادٌ لشخصيَّتنا في الماضي كما سيكون في المستقبل امتداد لحياتنا الحاضرة، بمعنى أنَّ شخصيَّتنا (العربية) لم تولد من عَدمٍ وانَّما هي جزءٌ من هذا التراث، فتراثُ الانسانِ أو المجتمع هو أساس شخصيَّته، وتالياً فتراثنا هو سِرُّ وجودنا وجوهرنا الذي يُعبِّر عن حقيقتنا.

والتراث في فكر القائد المؤسِّس هو حياةٌ وثورةٌ وحضارة، وهو البُعد التاريخي الذي يُشكِّل جزءاً مكوِّناً لشخصيَّة الأمَّة وهويتها، فالعودةُ اليه تعني تجديد الصلةَ بما هو حيٌّ وفاعلٌ منه، وبما هو ايجابيٌّ ومؤثِّرٌ في نهضتنا، وما هو منسجمٌ مع حركة المجتمع وانطلاقة الأمَّة نحو المستقبل.

على أنَّ الاهتمام بالتراث هو ليس من أجل التراث أو ذاته، بل من أجلِ حداثةٍ نتطلَّع اليها. حداثة نابعة من صميم حياتنا، معبِّرة عن مُقوِّمات شخصيَّتنا، فكما أنَّ التراث جزءٌ من عملية الدفاع عن ماضٍ تليدٍ من تاريخ الأمَّة، فهو أيضاً يُسهم في اعادة بناء الذات المعاصرة أيضاً من خلال دوره في تشكيل الثقة بالنفس اللازمة لكل انطلاقة جديدة.

يرى المُؤسِّس الخالد أحمد ميشيل عفلق أنَّ التراثَ هو استحقاقٌ، ومن خلال النضال نرتقي كيما نبلغه، لا أن نقعد وننتظر نزوله الينا!، فلا يُعقَل أن نطلب من الأمَّة أن ترتفع الى مستوىً لا نكون نحنُ قد بلغناه، ولا نكون قد برهنَّا للآخرين بأنَّه قابل البلوغ. ويضيف المؤسِّس أنَّه عندما تَتحقَّق في هذه الأمَّة فكرة الانقلاب، كونه اليقظة الحقيقية لرُوح الأمَّة في مرحلةٍ فاصلةٍ من مراحل التاريخ الانساني، فهذا يعني أنَّه بدون الانقلاب لا يُفهم أيّ بعثٍ للأمَّةِ، فهو وحده الذي يكوّن الشخصية العربية من جديد. من هنا ينظر القائد المؤسِّس الى النضال باعتباره الوسيلة الحقيقية للإبقاء على الصلة المتوازنة بين التراث والمعاصرة.

فالنضالُ يُوثِّق صلتنا بالماضي ويجعلنا نحتاجُ الى هذه الصلة، فهي التي تدعمنا في نضالنا، وتُقَوِّينا وتساعدنا على تحديد هُويَّتنا الحضارية. ولتحقيق المستوى المطلوب من النضال، كان البعثُ يقف بين صعيدين: بين الأمَّة، وبين الانسان الفرد، فكيما يمتحن البعث صدق نضاله ومدى تقدّمه على الطريق، أن يرجع الى الأمَّة دورها التاريخي بعظمتها وعبقريَّتها ورسالتها الانسانية الحضارية، وأيضاً بواقعها الراهن. كذلك فالبعثُ مُطالبٌ بأن يرجع الى الانسان العربي، المناضل العربي لأنَّه الأداة المقدَّسة لتحقيق أهداف الأمَّة. انَّ اكتشاف التراث وفهمه يقودنا الى التحرّر من النظرة المُنغلقة عنه، كما يمنحنا القدرة على التحرّر من التعصّب الأعمى له.

لقد أكَّدَ المؤسِّس على أهميَّة وأرجحية العمل بتراث الأمَّة المشرق، وأن تستلهم الثورة العربية روح الرِّسالة، ومستواها العالي، فيقول في مستوى هذه الثورة: أنَّه شرطٌ أساسيٌّ أن نَتبنَّاه ليكون سيرنا الى المستقبل بشخصيةٍ أصيلةٍ، شخصية مُستندة الى هذا التراث، من هنا فارتباط الثورة بالرِّسالة الخالدة يكون من خلال الإيمان بها كونها المُحرِّك للجماهير العربية والمُوَحِّد لها، ففكرة الرِّسالة مُستمدة من التراث، ومن الدور الذي ينبغي ان تضطلعه الامة في الحاضر والمستقبل لخدمة التطور الانساني.

إنَّ فكرة الرسالة كما يراها المؤسِّس تقودُ حتماً الى تكوين نظرة الى الماضي وعلاقته بالحاضر والمستقبل، وأنَّ المنظور الحضاري للأمَّة العربية في مرحلتها الانبعاثية الجديدة، لابدَّ أن يأخذ بعين الاعتبار البَون الشاسع بين هذه الأمَّة وماضيها، وبينها وبين حاضر غيرها من الأمَم. انَّ ماضي الأمَّة كان ابداعاً، كما يراه المؤسِّس، حيثُ برَّر العربُ فيه وجودهم كأمَّة حضارية، ولا ننسى كما يقول القائد المؤسِّس، أنَّ حضارة العرب في القديم لم تكن ممكنة، وما كانت لتَتحقَّق لولا تلك الفترة النضالية التي لم تتجاوز عشرات السنين، ويقصد بها الفترة التي نضجت فيها عقيدة الإسلام في صدور أبناء الأمة، قبل أن يبدأ فجر الحضارة العربية الإسلامية بالانبلاج عن صباحاتٍ يسطع نورها على العالم، وعبَّر عنها بـ(الخميرة الرُّوحية) التي سمحت للعرب فيما بعد أن يحتفظوا بقوّة الابداع، وبقوّة الخَلق.

 وبعد أن تَبيَّنا جملةً من الحقائق في نظرة المؤسِّس للتراث، يبرز أمامنا تحديان للمنظور الحضاري (الانبعاثي) وهما: تحدِّي التراث، وتَحدِّي المُعاصرة أو الحداثة، فالمنظور الحضاري للأمة لا بدَّ أن يجمع الأصالة أو التراث وبين روح التَّجدد الدائمة في ذات الأمَّة في بوتقةٍ واحدةٍ، وتالياً تَتشكَّل الوحدة الأساسية للشخصية الحضارية للأمَّة من خلال الصلة الحيَّة والفاعلة بماضي الأمة المجيد، وبالمعاناة الجديدة في حاضر الأمَّة، ومن ثمَّ التفاعل الحيّ مع روح العصر باتِّجاه المستقبل. من هنا فبناء شخصية حضارية جديدة لأمتنا العربية تستلزم أن يتوافر في المجتمع شرط التعامل مع الزمن من خلال منطق الحياة وقانونها، فالتاريخ يُشكِّل بُعداً من أبعاد الشخصية الحضارية، شخصية أصيلة تستند الى ذلك الكم الثَرّ من التراث، الى القيَم الكبرى التي سارت عليها الأمة في عصور ازدهارها وتقدّمها ورُقيِّها، عندها فقط يمكن أن نكون مبدعين، وفي هذا يرى المؤسِّس رحمه الله أنَّ التجربة الحقيقية للأمَّة هي المخاض التي ستخوضه من مواجهة التحديات ومن المُعاناة، مُعاناة التَمزّق الذي تعيش فيه الأمَّة، معاناة التَخلّف، معاناة البعد عن حقيقة الأمَّة (العبقرية) والعريقة، واستعدادها لمرحلة النهوض الحضاري، وعن طاقات جماهيرها المعطَّلة...كلّ هذه المعاناة ترفع الى المزيد من النضال، ويُلخّص المؤسِّس نظرته للتراث بمقولته:" أنَّ اشكالية الأصالة والمعاصرة هي اشكالية نهضوية".

 

نستخلص ممَّا سبق عرضه أنَّ التراثَ في فكر القائد المؤسِّس يتناول عدداً من الحقائق المهمَّة:

أولها: أنَّ الصلةَ بين الأمَّة والتراث هي صلةٌ حتميةٌ، ومن الطبيعي أنَّ الأمَّة التي تمتلك تراثاً هائلاً كأمتنا العربية، هي أمَّةٌ عريقةٌ بمعنى أنَّها تحتفظ بتجاربٍ وانجازاتٍ حضاريةٍ وثقافيةٍ متميِّزة.

ثانيها: أنَّ التراثَ هو الأرضية والقاعدة للأصالة القومية، والتي لا تنغلق على ابداعات وثقافات الأمم الأخرى، بل تَتَّجه نحو الانفتاح عليها دون أن تقلِّدها أو تنقل عنها قوالب جاهزة، أو أن تعتمد عليها كما هو حال الأمَّة اليوم. وعندما تستفيد الأمة من تراث وابداعات الأمم الأخرى فهي تأخذ ما ينسجم وطبيعتها وأخلاقها وقيَمها وبيئتها لتضمن نجاحها والاستفادة الحقّة منها.

ثالثها: أنَّ التَّجديد في نظر المؤسِّس لا ينفصل عن التراث، لأنَّ الانفصال يؤدي لا محالة الى الفصام في النفس والذات العربية، وتالياً ينبغي علينا أن نكون أوفياء لتراث أمتنا العربية العريقة.

رابعها: أنَّ نظرة المؤسِّس الى التراث تأتي من نظرة نهضوية حضارية، تتفاعل مع التراث وتستلهم قيمه المشرقة، لتكون في خدمة الأمَّة وتطلعاتها نحو التحرّر والانبعاث والنهوض. وأنَّ استلهام التراث يجعل منه حافزاً لشَحذ الهِمَم والطاقات العربية الكامنة من أجل الارتقاء بواقع الأمَّة المُتردّي، وتالياً بناء المستقبل المنشود الذي تصبو اليه الأمَّة.

خامسها: بناء مستقبل الأمَّة بناءً حضارياً أصيلاً ومعاصراً يتطلب وعياً أصيلاً للتراث الحضاري للأمَّة.

سادسها: أنَّ المعرفة والوعي بالتراث هو التزامٌ أساسيٌّ، وشرطٌ لا بدَّ منه في الفكر القومي النهضوي المعاصر. وهو يشكِّل أهميَّةً بالغةً في نضالنا القومي كـ(بعثيِّين) وغيرهم من ابناء الامة المؤمنين بحقها في التحرر والنهضة، فالوعي بالتراث يُسهم اسهاماً فاعلاً في عدم التبعية الفكرية خارج اطار الأمَّة، وفي نفس الوقت فهذا لا يعني الانغلاق الفكري، ويبقى التراث كما ينظر اليه المؤسِّس رحمه الله، أنَّه: "أصالة عربية وعقل ثوري".

وفي الختام نقول، إنَّ التراثَ في فكر المؤسِّس ليس شيئاً حصلَ في الماضي وانتهى، بل أنَّ التراثَ يتوقّف على استمراريَّته في الحاضر، ومدى فعله في هذا الحاضر وتفاعله معه.

 

يتبع لطفاً..

 

 

المصادر

1.    البعث والتراث ،  القائد المؤسِّس

2.    التراث في نظر الحزب ، القائد المؤسِّس

3.    تعريفات ببعض المصطلحات ، مكتب الثقافة والاعلام القومي

4.    المنهاج الثقافي المركزي، الكتاب الأول،  مكتب الثقافة والاعلام القومي






الجمعة ٥ ذو الحجــة ١٤٤٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٣ / حـزيران / ٢٠٢٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. محمد رحيم آل ياسين نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة