شبكة ذي قار
عـاجـل










لماذا تدهور الوضع الصحي في العراق بعد سنة 2003؟

أ.د. مؤيد المحمودي

 

في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، شملت الرعاية الصحية المجانية في العراق 97% من سكان المدن، و71% من سكان الأرياف، فضلاً عن توفر الخدمات الطبية الشاملة في البلاد التي ساهمت في انخفاض معدلات وفيات الأطفال حسب تقارير منظمتي اليونيسف والصحة العالمية. إلا أن العقوبات الاقتصادية الظالمة التي فرضها مجلس الأمن على العراق عام 1990 والتي شملت حظر استيراد العقاقير والأدوية وكذلك الأجهزة الطبية الضرورية، قد أدت الى بعض التراجع في الخدمات الطبية. ولكن بالرغم من تلك الظروف القاسية بقي النظام الصحي متماسكا بسبب الرقابة الشديدة والاهتمام الذي أولته الدولة آنذاك لهذا القطاع المهم. وفي شهادة لإحدى الطبيبات الاخصائيات التي عملت في بداية التسعينات بالعراق أكدت على توفر الدواء الأساسي للأمراض المزمنة والانتقالية آنذاك وأشادت أيضاً بانضباط الموظفين من الكبير إلى الصغير، واهتمام المسؤولين في نظافة المستشفيات باستمرار، رغم حرب الخليج الأولى سنة 1991 وتعرض العراق إلى الحصار الاقتصادي الذي دام 13 سنة.

أما بعد سنة 2003 فقد حصل تدهور كبير في قطاع النظام الصحي بالعراق شأنه شأن القطاعات الأخرى في البلاد، حتى أن مركزاً عراقياً مستقلاً للدراسات والتخطيط اسمه البيان، قد وصف وضع الرعاية الصحية في العراق بأنها الأسوأ في الشرق الأوسط. ويؤكد هذه الحقيقة أحد المختصين بالصحة العامة في حديثه للجزيرة نت، الذي تطرق فيه إلى وجود الكثير من الأمراض الانتقالية وغير الانتقالية التي تفشت في عموم البلاد منذ الغزو الأميركي. وأشار كذلك إلى حدوث ازدياد ملحوظ في الأمراض السرطانية المرتبطة بالملوثات البيئية والأطعمة المسرطنة، وسط غياب الرقابة الصحية عليها. وكذلك ازدياد الأمراض المتعلقة بالتشوهات الجنينية التي مصدرها الأساسي استخدام بعض الأسلحة المحرمة من قبل الجيش الأمريكي، خاصة في الفلوجة والبصرة ومدن جنوبية أخرى. كما تسبب التلوث الجوي في العراق الناتج من العمليات العسكرية وتعدد حالات هبوب العواصف الترابية التي يحفزها الجفاف الى زيادة الأمراض التنفسية. وانتشرت أيضا الأمراض القلبية المرتبطة بالأزمات، مما أدى إلى ازدياد أمراض تصلب الشرايين واحتشاء العضلة القلبية التي باتت تنتشر في أعمار أصغر من المألوف سابقاً. كما برزت مشكلة صحية أخرى في البلاد تتعلق بعودة ظهور بعض الأمراض الخطيرة، التي نجح العراق سابقا في القضاء عليها. من أبرزها الملاريا والكوليرا وشلل الأطفال، وذلك بسب الدمار الذي طال القطاع الصحي. وتعود أسباب هذا التدهور في النظام الصحي العراقي بعد الغزو الى العوامل الرئيسية التالية:

أولاً: اهمال الدولة للنظام الصحي

من أهم أسباب تردي خدمات الرعاية الصحية في العراق هو قلة الاهتمام بهذا القطاع المهم من قبل الدولة وانعدام الجهود الحقيقية في تطويره نحو الأحسن. ويتضح هذا الاهمال بصورة جلية في قلة التخصيصات المالية من قبل السلطة الحالية للرعاية الصحية، حسب ما ورد مؤخرا في تقرير لوكالة رويترز للأنباء، الذي أشار إلى أن الحكومة العراقية خصصت 2.5 في المئة فقط من موازنة الدولة البالغة 106.5 مليار دولار لوزارة الصحة في العام 2019. وهي السنة التي شهدت هدوء نسبي في البلاد لم يتخلله ظهور حركات عسكرية كبيرة مثل الصراع مع داعش. بالمقابل في تلك السنة حصلت قوى الأمن على 18 في المئة ووزارة النفط على 13.5 في المئة من ميزانية الدولة. بالإضافة الى ذلك أظهرت بيانات منظمة الصحة العالمية الى أن الحكومة المركزية في العراق أنفقت خلال السنوات العشر الأخيرة مبلغا على الرعاية الصحية للفرد أقل بكثير من دول ذات ايرادات مالية لا تصل الى خمسة ايرادات العراق. إذ بلغ نصيب الفرد من هذا الإنفاق في العراق الى 161 دولارا بالمقارنة مع 304 دولارات في الأردن و649 دولارا في لبنان. ولو توفرت النيات الحسنة من قبل الدولة لكان الوضع الصحي في العراق قد تطور كثيراً منذ الغزو الأميركي لأراضيه، خاصة وأن الموارد المالية الهائلة لا تنقصه.

ومما زاد الأمور تعقيدا ابتلاء العراق في العشرين سنة الأخيرة بحكام جهلة بعيدين كل البعد عن استيعاب الاحتياجات الحقيقية التي يتطلبها نظام الرعاية الصحية المتكاملة، فانعكس هذا الجهل في القيادة الحاكمة على ما تقدمه الدوائر الصحية بصورة عامة من خدمات للمواطنين. ومن الادعاءات الزائفة عن معالجة الوضع الصحي في البلاد ما تعهد به الكاظمي في فترة انتشار مرض كورونا من أن معالجة هذه الأزمة الصحية ستشكل أولوية لحكومته. حتى اتضح فيما بعد ان كلامه هذا مجرد دعاية فارغة انكشف زيفها عندما فشلت حكومته في تقديم استراتيجية واضحة للتعامل مع المرض وتأخرها عن دول أخرى مجاورة في المباشرة بعملية التطعيم. وقد أدى هذا الفشل في التعامل مع الوباء الى ارتفاع حالات الإصابة بالكورونا الى 1.4 مليون شخص توفي منهم 17000، وقد تكون الأرقام أعلى من ذلك بكثير نظرا لأن الأرقام الرسمية غالبا ما تكون غير موثوقة. أما السوداني فقد حاول التهرب من التعامل بصورة جدية مع الخلل في الوضع الصحي واكتفى فقط الاشارة اليه بطريقة غير جدية. عندما قدم استعراض إعلامي في حديثه مع الطاقم الطبي لإحدى المستشفيات. قائلا "حتى الصاحي إلي يجي هنا يتمرض.. الله لا يوفقنا على هاي الخدمة ". وكان يقصد بذلك أن المعافى الذي يأتي للمستشفى يمرض بسبب سوء الأوضاع الصحية. ورغم اعترافه بتردي الخدمات الصحية، لكن السوداني لم يقدم بالمقابل حلول جذرية لمعالجة هذه الأوضاع الصحية المزرية التي وصل اليها القطاع الطبي. ناهيك عن خطأ الدولة الفادح بفتح الحدود على مصراعيها دون وجود رقابة حقيقية على دخول وخروج المسافرين والبضائع التي ساهمت بشكل كبير في اتساع رقعة انتشار بعض الأمراض في العراق.

أما المحاولة الجدية الوحيدة التي حصلت بعد الغزو لتصحيح الأوضاع الصحية في العراق، فإنها تمت عندما تسلم وزارة الصحة الدكتور علاء عبد الصاحب العلوان في الفترة من تشرين الأول 2018 حتى أيلول 2019.  وهو شخص مشهود له بالكفاءة العلمية التي حظي بها خلال عمله السابق في منظمة الصحة العالمية. لكن محاولته الجدية هذه لتصويب الأوضاع الصحية اصطدمت بالعراقيل التي وضعتها عصابة الحيتان المعشعشة في الوزارة والتي حاولت التربص للإيقاع به. فاضطر على أثرها الى الاستقالة بعد مرو سنة من شغله للمنصب الوزاري والهروب بجلده الى خارج العراق. وبعد استقالته نشر تقرير عن الوضع الصحي في العراق انتقد فيه تردي الخدمات الصحية، وخصوصاً في محافظات الجنوب والشمال مثل العمارة والموصل. كما ذكر في مقابلة مع وكالة رويتر أن الوضع الصحي في البلاد تراجع بشكل كبير جدا بعد الغزو. وأحد أسباب هذا التراجع، هو عدم إعطاء أولوية لقطاع الصحة من قبل الحكومات المتعاقبة في العراق.

ثانياً: النقص في الدواء والكوادر الطبية

يعاني نظام الصحة في العراق بعد الغزو من أزمة نقص شديدة في الدواء وفي أعداد العاملين القائمين على الرعاية الطبية. ووفقا لتقرير من قبل وكالة رويترز فان نسبة عدد الأطباء والممرضات في العراق مقارنة بعدد السكان يقل بكثير عن دول أفقر من العراق مثل الأردن ولبنان. ففي العام 2018، كان لدى العراق 2.1 ممرضة لكل ألف نسمة مقارنة مع 3.2 في الأردن و3.7 في لبنان. كما بلغ عدد الأطباء 0.83 فقط لكل ألف نسمة أي أقل بكثير من الدول المماثلة في الشرق الأوسط، كالأردن التي بلغ فيها عدد الأطباء 2.3 طبيب لكل ألف نسمة. والسبب الرئيسي في نقص الأطباء بالعراق يعود الى ظاهرة الهجرة بأعداد كبيرة الى الخارج الذي حصل بعد الاجتياح الأمريكي. وفي هذا الصدد تقول نقابة الأطباء العراقية أن حوالي 20 ألف طبيب، أي حوالي ثلث الأطباء المسجلين في العراق البالغ عددهم 52 ألفا، فروا من البلاد منذ بداية الغزو. وعن نقص الأدوية ألمح وزير الصحة السابق علاء العلوان خلال حديثه لرويتر عن هذا الموضوع موضحا أن حوالي 85 % من الأدوية الأساسية في العراق إما كانت موضع نقص في الامدادات أو غير متوفرة على الإطلاق بالمستشفيات في العام 2018. وكانت أدوية السرطان بالذات من أندرها وأكثرها عرضة للتهريب نظرا للارتفاع الكبير في أثمانها.

وهذا النقص الحاد في الأدوية والكادر الطبي جعل نظام الرعاية الصحية غير مهيئ لمعالجة أمراض سكان العراق الذي بلغ عددهم مؤخرا حوالي 42 مليون نسمة. مما اضطر الكثير من المرضى وخاصة المصابين بالسرطان الى طرق أبواب دول أخرى طلبا للعلاج مثل لبنان والهند والأردن وإيران وتركيا. وفي هذا المجال الصحي أنفق العراقيون 500 مليون دولار في العام 2018 كأجور خدمات على الرعاية الصحية التي تلقوها في الهند فقط

ثالثاً: تحميل الطبيب تبعات عجز النظام في معالجة مشاكل الوضع الصحي

يعتبر الطبيب أهم حلقة في هيكلية مؤسسات الرعاية الصحية، ما يتطلب صرف مبالغ كبيرة لإعداده أكاديميا بكفاءة عالية أكثر من أي خريج في التخصصات الأخرى. الا أن الاهمال وعدم توفير الدعم والحماية الكافية له مع تعمد تحميله مشاكل النظام وأخطائه في توفير الخدمات الصحية، جعلت منه بعد الاجتياح الأمريكي الحلقة الأضعف في النظام الصحي بالعراق. ونتيجة للأزمات العويصة التي تعرض لها نظام الرعاية الصحية، انهارت معها الثقة بين الطبيب والمرضى وأصبح مألوفا أن يعتدي أهل المريض أو عشيرته على الطبيب خاصة إذا ساءت حالة المريض بعد تقديم المعالجة له. كما أدت سياسات الحكومة الخاطئة إلى تفاقم الوضع بسبب الضغوطات الكبيرة على الطاقم الطبي للعمل في ظروف غير مقبولة ولساعات عمل طويلة، الأمر الذي يؤدي أحيانا إلى مزيد من الأخطاء ويقود بدوره إلى كثرة الاحتمال لتعرضهم الى الاعتداءات المتكررة. من ناحية أخرى فان هذه الضغوطات قد ساهمت في اصابة نسبة كبيرة من الأطباء ببعض الأمراض المعدية وبشكل خاص في فترة انتشار مرض كورونا. حيث تعرض العديد منهم الى خطر العدوى وفقد بعضهم حياته أثناء ممارسة عملهم لإنقاذ ما يمكن انقاذه من المرضى المصابين بهذا المرض الفتاك.

فضلا عن ذلك ما صرح به نقيب الأطباء العراقيين السابق من أن انعدام الاستقرار السياسي والأمني وضعف سلطة القانون بعد سنة 2003 قد عرض 360 طبيباً عراقياً لعمليات الاغتيال، كما جرت محاولات ابتزاز واختطاف لآلاف أخرين من الأطباء.  بالإضافة الى تعرض 80% من الملكات الطبية للإساءة النفسية والجسدية، عبر محاسبات عشائرية وتهديدات شخصية. وهذه المخاطر بالإضافة الى تدني الرواتب شجع الكثير من الأطباء على الهجرة بأعداد كبيرة من العراق الى دول أخرى.  وهي تمثل خسارة لا تعوض للخدمات الطبية في البلاد وتبذير كبير في الأموال التي صرفتها الدولة على اعداد هؤلاء الأطباء.

رابعاً: آفة الفساد التي فاقمت التدهور في النظام الصحي

الأحزاب والكتل السياسية قامت بتوظيف جماعاتها وفق نظام المحاصصة الطائفية والحزبية في مؤسسات وزارة الصحة، بما فيها مركز الوزارة والمستشفيات والمراكز الطبية الأخرى. وهذه الجماعات عادة لا تفقه شيئا في الطب بل يتلخص دورها الأساسي في استحصال الأموال والرواتب والاستئثار بعقود الشراء في الوزارة ودوائرها. وبعد تحصيل المكاسب والأرباح، مثل عقود الأدوية وشركات الاستثمار وغيرها من الوظائف والمشاريع الوهمية، تذهب الأموال المستحصلة إلى جيوب بعض المتنفذين من المسؤولين. وهكذا أصبحت هذه المجموعة من السماسرة العيون التي من خلالها يتقصى الفاسدون عن أنواع المشاريع والمشتريات التي تنوي الوزارة القيام بها. ونتيجة لتقليص دور شركة كيماديا التابعة للدولة عن قصد والتي كانت تعنى بتوفير الدواء لمستشفيات الدولة قبل سنة2003، أصبح المجال مفتوحا على مصراعيه في الوقت الحاضر أمام التجارة غير المشروعة للأدوية في العراق.  وهذه التجارة التي يسيطر عليها الأشخاص الذين يتبعون أحزابا سياسية أو مقرّبون من الطبقة الحاكمة، يتولون في الغالب استيراد أدوية مزيفة أو ذات جودة سيئة بأثمان باهظة، بالإضافة الى سرقة مخازن الأدوية التابعة للدولة. وبعض التقديرات تشير إلى أن قيمة الفساد في وزارة الصحة تجاوزت ال 10 مليار دولار منذ سنة 2003. ومن مظاهر الفساد الاخرى بروز حالة اشعال الحرائق في أقسام المستشفيات وردهاتها، التي تكررت عام 2021 في مستشفيين للعزل الصحي لمرضى كوفيد-19، الأول في مستشفى ابن الخطيب ببغداد والثاني في مستشفى الحسين بالناصرية.

   نتيجة لهذا الفساد المستشري في القطاع الصحي والمرتبط بسوء استخدام الأموال حصل ضعف كبير في تقديم الخدمات الصحية، في حين لعب الفقر دوراً مهما في عدم قدرة المواطن على إنفاق المال الكافي للعلاج. وتطرح هذه المشاكل المتعلقة بالوضع الصحي المزري في العراق الكثير من التساؤلات عن غياب دور الحكومة وأجهزة الأمن والمخابرات في معالجة قضية اضطرار الكثير من الكفاءات العراقية إلى الهرب خارج العراق حفاظاً على أنفسهم وأهلهم. وكذلك الغياب الواضح لدور الجهات المختصة في تطوير المستشفيات وحماية العاملين فيها من العنف وحتى القتل.

إن عملية تحسين النظام الصحي في العراق ترتبط بشكل اساسي في زيادة كفاءة الخدمات الصحية المقدمة للمواطن ومكافحة الفساد وهما عاملان مهمان فشلت الحكومة العراقية في تحقيقهما منذ سنة 2003. والتغيير صعب جدًا في عراق اليوم لأن القوى المسؤولة عن تدهور الوضع الصحي هي نفسها الطبقة الفاسدة المستفيدة من هذه الحالة المزرية. وإذا كان هناك أمل بإمكانية نجاح العلم الحديث في السيطرة على بعض أنواع الأمراض السرطانية، فان الفساد في العراق متفشي في مرافق الدولة بدرجة أقوى من انتشار وباء السرطان في جسم الانسان، ومن غير الممكن استئصال هذه الآفة كليا من جذورها الا بإزالة النظام السياسي الحالي نفسه.

 






الخميس ١٤ رجــب ١٤٤٥ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٥ / كانون الثاني / ٢٠٢٤ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أ.د. مؤيد المحمودي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة