شبكة ذي قار
عـاجـل










الحرب في غزة أعادت رسم خارطة المنطقة

فؤاد الحاج

 

اتصل بي صديق عزيز من قطر عربي يسألني عن سبب توقفي عن الكتابة خاصة في هذه الأوضاع اللاإنسانية التي تجري في فلسطين المحتلة وتحديداً في غزة، وبعد حوار مطول وعدته أن أكتب وهذا يتطلب بعض الوقت لأنني أصبحت متفرجاً عن بعد على ما يدور ليس في المنطقة العربية بل وفي العالم كله، لأنني ومنذ تسعينات القرن الماضي كتبت كما أعتقد ما فيه الكفاية ثم وصلت إلى قناعة أن الكتابة لم تعد تنفع. ولماذا وكيف أكتب؟ ومن يقرأ في عصر التفاهة؟ وأمة النكبات سابحة في محيط من القهر والألم والمؤامرات التي تحاك بمشاركة أنظمة عربية وإقليمية ودولية بقيادة إدارة الشر الصهيو-أمريكية، في ظل غياب الوعي الوطني والقومي! خاصة وأنني أعيش في أسفل بقعة جغرافية في الكرة الأرضية لا يربطني بوقائع الأمور سوى ما أتابعه عبر "الواتساب" ومطالعات للأخبار التي تنشرها بعض وسائل الإعلام وبعض القنوات الفضائية التي يغني كل منها على ليلاه مسترشدة بمواقف الجهة الممولة.

لذلك بدأت أبحث عبر شبكة الانترنيت عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى ما يجري في غزة منذ ما قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2013 إلى أن انتهيت في الأيام القليلة الماضية من قراءة العديد من التحاليل السياسية والمقالات والأخبار المتفرقة، التي وردت في عدد من المواقع الإخبارية العربية وغير العربية حيث توصلت من خلالها إلى أن الحرب في غزة تتعلق بموضوع واحد ألا وهو (مشروع الممر الاقتصادي بين "الهند – الشرق الأوسط – أوروبا)، ألخص فيه قراءتي لما جرى ويجري ليس في فلسطين المحتلة وغزة فقط بل وفي المنطقة العربية الممتدة من الماء إلى الماء أي من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي.

بداية لابد من القول وإعادة التأكيد على أن خارطة المنطقة كلها تغيّرت بفعل الأحداث المستمرّة منذ الغزو الأمريكي- الصهيوني – الفارسي للعراق بمساندة أنظمة عربية في نيسان/أبريل 2003 وصولاً إلى احتلاله في أيار/مايو من تلك السنة. وكما يبدو أنّ نظرية "الفوضى الخلاقة" التي أعلنتها سيئة الصيت "كوندوليزا رايس" وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة (26/1/2005 إلى 20/1/2009) في عهد الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، بينما الوقائع تقول أن رايس لم تقدم شيئاً سوى أنها استدعت عبارة معروفة في الفلسفة السياسية والاقتصادية الأمريكية، ومع مرور الزمن باتت هذه النظرية واقعاً تعيشه المنطقة بأسرها. فمنذ أن تم احتلال العراق وانهيار الدولة العراقية بدأ ميزان القوى مختلاً، لأن العراق كان النموذج الذي طبقت عليه نظرية "الفوضى الخلاقة" وأثبتت نجاحها. ومن ثم بدأت الصراعات تتداخل بين الدول العربية والإقليمية، وأصبحت إيران الملالي تتحكم في الأوراق المحلية لكل البلدان العربية بحيث باتت أكبر بعشرات المرات عما كانت عليه قبل غزو العراق واحتلاله.

ففي العراق بات الشعب هناك بغالبيته محكوماً بالعقلية الغيبية بسبب نشر الجهل من قبل المعممين التابعين لحوزة قم ضمن مخطط مدروس أساسه نظرية "الفوضى الخلاقة" كي يهرب الجيل العراقي الجديد (من مواليد ما بعد 2003) من الحاضر بشتى السبل من خلال تعاطي المخدرات ونوادي العهر الليلية ليس في بغداد فقط وإنما في شمال العراق أيضاً لأن هذا الجيل بات من دون أمل في المستقبل.

وفي سورية انتفض الشعب السوري في ثورة عارمة ضد النظام الحاكم الذي وجدت فيه إيران الملالي فرصة جاءتها على طبق من ذهب، فاستغلت تحرك النظام من خلال الحل العسكري وأرسلت سراياها العسكرية المختلفة ليس من إيران فحسب بل ومن دول أخرى (العراق وباكستان ولبنان) على سبيل المثال، لتحقيق الخيارات القصوى لنظام الاستبداد، حيث تمكن "الحرس الثوري الإيراني" من الانتشار في أغلب مناطق سيطرة قوات النظام، كما مكن المؤسسات الإيرانية ذات الطابع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي من التغلغل في بنية الدولة والمجتمع السوريين، أضف إلى ذلك بالتأكيد تكريس هيمنة شبه كاملة على لبنان. وكذلك في اليمن حيث يمكن القول حدث ولا حرج، فالشعب هناك ليس على شفى الانهيار الكامل بل أنه يعيش واقع انهيار الدولة بعد وقوع 14 مليون يمني تحت خطّ الفقر المدقع، وعدم قدرتهم على تأمين وجبة طعامٍ واحدة في اليوم، في حين تستمرّ الصراعات العسكرية بدعم من قوى خارجية (السعودية والإمارات) في الوقت الذي تتعزّز فيه سيطرة الإيرانيين من خلال الحوثيين أكثر فأكثر على القرار اليمني، ثم جاءت هجمات الحوثيين في البحر الأحمر دليل ساطع على دور إيران في اليمن وفي المنطقة.

أما تركيا، صاحبة الإرث التاريخي الطويل في المنطقة، فهي تبحث عن دور يثبت وجودها كقوة إقليمية لتتقاسم الكعكة مقابل القوة الإيرانية في العراق وفي سورية، وتأثيرها الضعيف في شمال لبنان الذي تبحث من خلاله عن دور لها في لبنان، وكذلك في ليبيا والجزائر وبعض دول أفريقيا وفي منطقة البحر الأبيض المتوسط، إن من خلال تدخّلها العسكري المباشر أو على الصعيد الاقتصادي بحيث أصبح التأثير التركي ملحوظاً للمتابع لمجريات الأوضاع في المنطقة على كافة المستويات.

مما تقدم أدخل إلى صلب الموضوع الذي منه نعرف السبب الحقيقي للحرب في غزة.

للتوضيح إذا عرفنا ما هو مشروع "الممر الاقتصادي بين الهند - الشرق الأوسط - أوروبا" يمكن أن نعرف لماذا أرسلت الهند جنوداً وقطع غيار وطائرات مسيرة ومتطوعين للقتال إلى جانب الكيان الصهيوني في غزة، وكذلك فعلت بعض البلدان المنضوية اقتصادياً في هذا المشروع ومنها دولة الإمارات، وغيرها من دول الخليج العربي التي لم تقدم أياً منها مساعدات ولو عينية للشعب الفلسطيني سوى من خلال الإعلام، حتى وإن وصل بعض تلك المساعدات إلى سكان غزة فأنها لا تسد رمق أو إشباع المواطنين الفلسطينيين في غزة سوى لأيام معدودات. فما هو هذا المشروع "الممر الاقتصادي" الذي أختصره بما يلي، أنه مشروع اقتصادي كبير روجت له الولايات المتحدة خلال قمة مجموعة العشرين وهي (أول قمة لمجموعة العشرين عقدت اجتماعها في الهند (9 و10 أيلول/سبتمبر 2023)، التي وضعت خططاً تعتمد على بناء ممرات السكك الحديدية عبر الجزيرة العربية تربط بين آسيا وأوروبا عبر دول منطقة الشرق الأوسط، من أجل تسريع التطبيع مع الكيان الصهيوني لمواجهة مبادرة "الحزام والطريق" الصينية.

وهذه هي الدول الأساسية التي شاركت في قمة العشرين في الهند:

الهند، الولايات المتحدة، المملكة المتحدة (بريطانيا)، الاتحاد الأوروبي، تركيا، جنوب إفريقيا، روسيا، كوريا الجنوبية، المكسيك، اليابان، إيطاليا، إندونيسيا، ألمانيا، فرنسا، الصين، كندا، البرازيل، أستراليا، الأرجنتين.

كما شاركت الدول التالية كضيوف القمة: بنغلاديش، جزر القمر، مصر، موريشيوس، هولندا، نيجيريا، سنغافورة، إسبانيا، الإمارات العربية المتحدة. ومن يتابع خارطة ذلك الممر يتضح له كيفية تحقيق هذا "الممر" الاقتصادي الذي ينطلق من الهند وصولاً إلى أوروبا كما هو مخططاً له.

وقد ذكر خبراء في الاقتصاد الدولي "إن أبرز ثمار المشروع ستتمثل في تعزيز التكامل الاقتصادي والشراكة داخل الشرق الأوسط من خلال الربط بين الإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل فيما سيعتمد الأمر برمته على تحقيق السلام الإقليم"، لكن حرب غزة قلبت الوضع الأمني رأساً على عقب، فضلاً عن أن الاستنكار الشعبي في عدد من البلدان العربية وأهمها في الأردن تجاه القصف الإسرائيلي لغزة أدى إلى تقويض مسار التطبيع بين إسرائيل ودول عربية خاصة السعودية." وقال الخبراء "أن خلفية هجمات الحوثيين على السفن في ممر الملاحة الدولي في البحر الأحمر، فهناك شكاً حيال مستقبل هذا المشروع."

والجدير بالذكر أن وكالة "بلومبرغ نيوز" الأمريكية التي يقع مقرها في مدينة نيويورك وتنشر تقارير الأخبار المالية والاقتصادية لدول العالم، قالت أن "السعودية قد تعهدت بضخ استثمارات بقيمة 20 مليار دولار لتنفيذ المشروع سيذهب جُلها لإنشاء شبكة السكك الحديدية، لكن يبدو أن  مستقبل المشروع بات مرهوناً بتطور الحرب بين إسرائيل وحماس في ضوء أن تنفيذه سوف يتطلب مستوى غير مسبوق للتعاون بين إسرائيل وجوارها العربي."

وقد عارض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هذا المشروع قائلا: "لا يمكن أن يكون هناك ممر بدون تركيا"، لأن المشروع لا يدخل تركيا في نطاق استراتيجته أو ضمن "الممر الاقتصادي".

وفي شباط/فبراير المنصرم، وقعت الإمارات والهند اتفاقية إطارية لتشغيل الممر الاقتصادي. وكذلك قامت فرنسا بتعيين جيرار ميسترالي، الرئيس التنفيذي السابق لشركة "إنجي"، مبعوثا خاصاً لتمثيل فرنسا في المشروع، لتنفيذ الممر الاقتصادي الجديد.

على صعيد آخر نجد الانزعاج الأميركي من تقويض مشروع "الممر الاقتصادي" جاء بإرسال حاملتي الطائرات "يو أس أس دوايت إيزنهاور" و"يو أس أس جيرالد فورد" ثم الغواصة النووية "أوهايو"، بعد التحاق قطع بحرية فرنسية وبريطانية وألمانية، وانضمامها إلى الأساطيل الحربية في البحر الأبيض المتوسط.

لذلك يمكن التأكيد على أن الحشود العسكرية الأميركية والأوروبية غير المسبوقة لم تأت لقلب ميزان القوى لصالح الكيان الصهيوني أو لتوسيع نطاق المعارك بل هي لاستكمال تحقيق الأهداف الصهيونية الأميركية الاقتصادية بعد إخضاع غزة. لأن مشروع طريق الهند نحو أوروبا عبر دولة الإمارات العربية المتحدة والسعودية والكيان الصهيوني الذي سارعت الولايات المتحدة إلى إقراره ودعت لتنفيذه خلال قمّة العشرين في العاشر من أيلول/سبتمبر 2023، وأن ما جرى في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 وإرسالها حاملات الطائرات وإمداد الكيان الصهيوني بالعتاد والأسلحة وإرسال عشرات مليارات الدولارات للكيان الصهيوني فأن أميركا تعتبره بمثابة الرد القوي على الدول التي لا تخضع لإرادة واشنطن في الاقتصاد والسياسة والطاقة ومنها تركيا وفي الوقت نفسه هو تهديد مباشر للصين التي تعمل على تحقيق مشروع "الحزام الاقتصادي" لطريق الحرير الذي يبدأ من البر الرئيسي للصين وطريق الحرير البحري وصولاً إلى بلدان تقع في شرق وجنوب شرق أفريقيا (مثل إثيوبيا وكينيا وتنزانيا وموزمبيق ومدغشقر وجنوب إفريقيا) التي تعاني من عجز كبير في البنية التحتية، وخاصة الشوارع والجسور والموانئ والمستشفيات والمدارس وغيرها وكذلك شمال إفريقيا (مصر والمغرب والجزائر، والبلدان الإفريقية الداخلية مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية وزامبيا وزيمبابوي. ويشار هنا أيضاً إلى أن الصين ومنذ بداية تسعينات القرن الماضي كانت قد بدأت بإقامة ما أسموه الجسر الأرض الأوراسي، وهو خط سكة حديد يمر من الصين إلى كازاخستان ومنغوليا وروسيا، الذي عرف باسم "طريق الحرير الجديد". وفي عام 2008 تم استخدام الخط لربط مدينتي أورومتشي في الصين مقاطعة شينجيانغ بـ"ألماتي ونور سلطان في كازاخستان. وفي تشرين الأول/أكتوبر 2008 وصل أول قطار عبر أوراسيا إلى هامبورغ من شيانغتان. وبدءاً من تموز/يوليو 2011، تم استخدام الخط بواسطة خدمة الشحن الصينية التي ربطت مدن صناعية في الصين بألمانيا، وتم حينذاك خفض وقت السفر للبضائع من حوالي 36 يوماً بواسطة سفينة الحاويات إلى 13 يوماً فقط بواسطة قطار الشحن. وفي في عام 2013، بدأت شركات دولية كبرى في نقل قطارات شحن كبيرة تنقل عبر هذا الخط أجهزة الكمبيوتر المحمولة والشاشات على طول طريق السكك الحديدية مثل شركة (HP) هوليت-باكارد (Hewlett-Packard). وفي كانون الثاني/يناير 2017، أرسلت تلك الخدمة أول قطار لها إلى لندن بالإضافة إلى ذلك بمدريد وميلانو في أوروبا.

تجدر الإشارة هنا إلى أن هناك دولاً مؤسِسة في "مشروع الممر الاقتصادي" تشارك أيضاً في "مبادرة الحزام والطريق" الصينية التي قامت أولاً على أساس الاستثمار في مجالات البنى التحتية. وقد ضمت عشرات الدول عبر العالم (155 دولة) ومن بينها السعودية والإمارات. والمهم في المشروع هو تركيز "مشروع الممر الاقتصادي" على الربط السككي، والبحري، والنقل الرقمي بتركيب كابلات الألياف البصرية، وبالتوازي وبشكل مستقل تأسيس ممرات خضراء عابرة للقارات حيث تم توقيع (بروتوكول أميركي - سعودي) تحت مسمى "الشراكة العالمية للبنية التحتية والاستثمار" اتساهم السعودية فيه بمبلغ 20 مليار دولار.

وبما أن الحديث في هذا الصدد يطول وبحاجة إلى حلقات دراسية ومتابعات اقتصادية لدول المنطقة أقول أن الحرب في غزة قد أعادت رسم ليس خارطة المنطقة فقط، بل والعالم، بانتظار إعادة رسم خارطة دولية جديدة لتقسيم العالم من القوى الاقتصادية الكبرى في العالم لا مكان للدول العربية فيها سوى بالتمويل واستعمالها كمناطق لإعادة التصنيع لرخص الأيدي العاملة فيها، دون أن ننسى النفط والغاز في بحر غزة.

 






الخميس ١ ذو القعــدة ١٤٤٥ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٩ / أيــار / ٢٠٢٤ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب فؤاد الحاج نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة