شبكة ذي قار
عـاجـل










في الخامس من شهر فبراير عام 2011 م ، شهدت العاصمة العراقية بغداد ، ومدن ومحافظات الوسط والجنوب والشمال كالفلوجة وكربلاء والديوانية وبابل والنجف وكركوك والبصرة والموصل وغيرها، أنطلاق تظاهرات سلمية ، احتجاجا على سوء الخدمات ، وللمطالبة بالقضاء على الفساد الإداري وهدر المال العام وإطلاق سراح الموقوفين وإيقاف التدخل الإيراني البغيض بشؤون العراق ، ومما يدل بوضوح على كون هذه التظاهرات ليست بحركة تقليدية وإنها واحدة من ملامح ثورة شعبية صادقة ونقية ، أنها حملت شعارت ومطالبات موحدة في لغتها ونوعها. في ساحة التحرير خرج المئات من العراقيين على أختلاف قومياتهم ومذاهبهم وإنتمائاتهم للتظاهر بعد أن بلغ الظلم مداه في حياة هذا الشعب العظيم ووصلت حدود الصبر على هذا الظلم درجاتها الحمراء ، لكن جموع شباب الثورة والفنانيين والكادحين والعمال والنساء الثكالى ، جوبهت بإجراءات أمنية تمثلت بإغلاق جميع الطرق المؤدية إلى ساحة التحرير وسط العاصمة بغداد ثم بتدخل عسكري سافر ومروع من خلال أستخدام الطيران المنخفض وبحضور مسؤولين كبار من الداخلية العراقية ومكتب رئيس الوزراء نوري المالكي وفيلق القدس الإيراني .!


استمر العراقيون جمعة بعد أخرى في التظاهر رغم قسوة أجهزة النظام ومليشياته معهم ، حتى بلغ أستهتار الحكومة بالمتظاهرين ( السلميين ) أن أطلقوا على الرجال والنساء المتجمعين في ساحة التحرير مجموعات منظمة من ما سمي ب"بلطجية المالكي" وهم من مجالس الإسناد التي أسسها ويدعمها ، ويحملون السكاكين والعصي فقاموا بالاعتداء على المتظاهرين مما أدى إلى إصابة العشرات بجروح مختلفة، ورغم هذه المواجهات غير المتوازنة بين شباب وكهول ونساء عزّل وبين هؤلاء " البلطجية" إلا أن طليعة الشعب المظلوم في ساحة التحرير واجهوهم بترديد الشعارات التي تطالب برحيل المالكي وحكومته، مثل "ارحل ارحل يا مشؤوم ما تتكرر مائة يوم"، و"ارحل ارحل يا مفضوح دع المنصب يله وروح". وما يقال عن تظاهرات وأعتصامات بغداد ينطبق تماما على ما حدث في محافظات أخرى وخاصة في البصرة والموصل .


نحن نتحدث الآن وبعد مرور أكثر من سنة على تظاهرات العراق والتي كانت نواة ثورة لم تستثمر لإسباب عديدة منها على سبيل المثال وليس الحصر :


1- تجاهل منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني والأمين العام للأمم المتحدة إلى حدما ، ما كان يجري من تجاوزات واعتداءات على المتظاهرين السلميين مقارنة بحماسهم ( منقطع النظير ) بحق تظاهرات واحتجاجات في تونس وليبيا ومصر واليمن والآن سوريا .


2- تهميش ثورة العراق من قبل الإعلام العربي رغم تميزها عن كل الحركات التي جرت في الوطن العربي بما سمي ب ( الربيع العربي ) كونها جاءت دون جهة حزبية منظمة ولإنها شملت كل العراق من أقصاه إلى قصاه .


3- عدم وجود قيادة تنظيمية نضالية متمرسة لقيادة وتوجيه المتظاهرين ( الثوار ) حيث كانت جموعهم تخرج رفضا للظلم والأحتلال الفارسي المبطن بتشكيلة مثلت الفسيفساء العراقية بصورتها الأبهى .


4- بطش النظام القائم في العراق وبمساعدة مخابرات إيران المتظاهرين ، وإحكام عزلهم وقطع خطوط المواصلات والأتصال معهم وبموافقة وتنسيق من قبل الجانب الأمريكي في العراق وفي واشنطن .


5- عدم وجود جيش عراقي وطني يمثل الشعب العراقي ، ذو قدرة على الحركة وأتخاذ القرار ، يمكن أن يحسم الأمر لصالح الشعب ، كما حدث في تونس ومصر مثلا .


إن ما يهمنا في هذا المقال هو دور الإعلام الغريب والمثير للريبة في تعامله مع تظاهرات أحتجاجية لشعب يعاني الأمرين من ظلم الحكام ، ومن بطش المحتلين لسيادته والعابثين بكرامته من الأمريكان والايرانيين ، ومن أنعدام أو سوء الخدمات والبطالة وغيرها من أسباب التظاهر المنطقية والمشروعة بموجب القوانين الدولية والدستور العراقي ، ولتصنيف مفردة الإعلام ، فإنني سأتطرق لتغطية وتعليق الفضائيات العربية الكبرى ، ومنها على سبيل الحصر ، "الجزيرة" و"العربية" اللتان ساهمتا بشكل كبير ومؤثر في حركات تونس وليبيا ومصر واليمن ومازالت تمارس ذات الدور في سوريا ، ولعل أي مراقب يلاحظ ودون أي عناء أو مهنية تذكر ، حجم الأختلاف في التغطية بين ما جرى في العراق من تظاهرات وأحتجاجات وبين ما تفرغت له هاتان القناتان وغيرهما لتغطية أحداث هذه الدول بالرغم من خطورة وأهمية الأوضاع في العراق عموما وتأثيراتها على الأمن القومي العربي ، وإذا كنا نتفهم لا مبالاة المنظمات الدولية والأمين العام وحتى الأنظمة العربية بتظاهرات "الغضب" العراقية ، بحكم الرغبة والمصلحة الأمريكية بعدم تغيير الأوضاع في الوقت الحالي ، إلا أنا يجب أن نتوقف كثيرا مستغربين تجاهل الفضائيات العربية بشكل واضح لحركة تظاهرات وأحتجاجات العراقيين التي اقتربت كثيرا من مظاهر الثورة منها إلى حركة أحتجاج عادية !


تذكر بعض التسريبات الإعلامية لمراكز رصد المعلومات الأمريكية أن مصالح إسرائيل وإيران والولايات المتحدة الأمريكية إضافة إلى بعض الدول الأقليمة ، أجتمعت على اجهاض ثورة الغضب العراقي ، وأن هناك توجيهات وربما تحذيرات وجهت إلى المسؤولين عن الفضائيات العربية الكبرى تطلب منهم عدم التعامل مع التظاهرات العراقية بتركيز إعلامي واضح ، لذلك لم تكن مفاجأة للمطلعين على دهاليز الإعلام بمعناه الحرفي ،عدم تغطية الإعلام العربي لثورة العراق التي بدأت في الخامس من شباط وتجلت بمليونية في 25 شباط 2011, في حين مارس الإعلام العربي وتحديدا الفضائيات المشار إليها دورا مهما ورئيسا في تغطية وإلهاب حركات تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا دقيقة بدقيقة، ولعلي قد اشرت في بحوث إعلامية سابقة أن فضائياتنا الكبرى تفقد الكثير من المهنية في التعامل مع الأخبار والمصداقية من خلال سرعة التغطية والمواضيع التي يتم التركيز عليها ، لكن في حقيقة الأمر لم تبلغ حركة الإعلام العربي درجة من عدم الموضوعية والحيادية كالتي شهدناها طيلة عام 2011 وحتى الآن، ولا يجد الباحث أسباب مهنية لتخطي الثورة العراقية وتجاهلها عن عمد وبشكل منظم وبدوافع سياسية، مع التغطية المهولة وصناعة عناصر التأثير على المتلقي في دول أخرى اقل تأثيرا من العراق ، وكأن لسان حال هذه الفضائيات يقول ؛ إنها المهمة الأخيرة لنا قبل أن يخلق اللوبي الإعلامي العالمي فضائيات جديدة بإنماط جديدة تتماشى والأستراتيجيات التي ستكون للعقد المقبل في المنطقة !


صحيح أن الفضائيات العراقية نقلت اخبار وصور التظاهرات العراقية ، وبرغم اختلاف الفضائيات العراقية في توصيف التظاهرات والمتظاهرين في العراق ، إلا أن المشهد الإعلامي العراقي شهد توافق أعلامي لقنوات محددة مثل قناة الشرقية والرافدين والبغدادية بشكل مهني حاول أن يرتقي إلى مستوى الحدث وإن كانت تعمل بإمكانيات محدودة قياسا بالفضائيات العربية والأجنبية، لكنها ، والحديث هنا مهنيا ، قد كانت أفضل بكثير من الفضائيات العربية ، وقد وثقت بنجاح عملية القمع الحكومي والانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان .


سؤالنا المهني إذن لماذا هذه الازدواجية في موقف الفضائيات العربية الكبرى في تغطية أحداث العراق وأحداث ما سمي بالربيع العربي ؟ لماذا يعبأ الرأي العام في الوطن العربي ضد بن علي والقذافي وحسني مبارك وعلي عبدالله صالح ، فيما يغض النظر عن نوري المالكي الذي شهد العراق خلال حكمه أكثر مستويات الفساد والظلم والتحالف غير المعلن ( وربما المعلن ) مع إيران ؟ لماذ لم يستخدم شهود العيان ورسائل الإعلام الجديد ( أفلام الهواتف الجوالة ) لنقل الأحداث والوقائع عن أساليب تعامل الحكومة العراقية مع المتظاهرين السلميين ، فيما أصيب المشاهد العربي بالملل نتيجة كثرة شهود العيان والرسائل القادمة من سوريا ومن قبلها دول الربيع العربي ؟ لماذا اعتبر القائمون على هذه القنوات الخبر العراقي ، هامشي ، وهو إما لا يذكر أو يتم وضعه بترتيب رابع أو خامس ضمن نشرات الأخبار ، مع العلم ، وكما ذكرت آنفا ان ما حدث ويحدث في العراق اكبر بكثير واخطر بكثير مما حدث في اليمن وتونس لمساسه المباشر بالأمن القومي العربي وبخاصة أمن الخليج العربي نتيجة الهيمنة الإيرانية الواضحة على الشأن العراقي ؟ لماذا لم تستضيف فضائياتنا العربية الكبرى الخبراء الأستراتيجيون والعسكريون ليقدموا تفسيرات وتحليلات لما يجري من تظاهرات في العراق واحتمالات تطور الموقف ووقاحة الحكومة العلنية في التعامل مع ابناء الشعب الأعزل ؟ وهذه الأسئلة عموما وبإجاباتها تقود إلى سؤالنا المركزي وهو : هل اثبتت الفضائيات العربية وخاصة الكبرى منها ان تغطيتها محايدة ومهنية ؟ برأينا وبمهنية كاملة نقول : بالطبع لا .


لقد مارست الفضائيات المشار إليها إسوة بالقنوات الإيرانية تضليلا إعلاميا واضحا في موضوع التظاهرات العراقية ، فقد أبرزت هذه القنوات محدودية عدد المتظاهرين ، ومرافقة الشرطة العراقية لهم دون المساس بهم .. الخ ، في حين كانت الصورة على الأرض والتي يملكون أفلامها مختلفة تماما ، ورغم محاولة المتظاهرين ( الثوار ) التمسك بثورتهم جمعة بعد أخرى ولبضعة أشهر رغم أستفزازت الحكومة وقواها الامنية ، ورغم ظن هؤلاء الثوار أن ثباتهم وإصرارهم على التظاهر والأعتصام سيجبر الفضائيات العربية على تسليط الضوء على مطالب الشعب العراقي وتشكيل عنصر ضغط على الحكومة العراقية لتلبية هذه المطالب ، إلا أن فضائياتنا العربية الكبرى كانت مشغولة بإجندة ( الفوضى الخلاقة ) التي أملتها أمريكا وأقحمت بها ظروف المنطقة بما يخطط لها من متغيرات أستراتيجية خطيرة .


لعل الكتابة بعد أكثر من عام عن ثورة وقعت في العراق قادها ونفذها وخطط لها الشعب العراقي ، وما قام به جنود اللوبي الإعلامي الصهيوني العالمي ، من جهود سلبية لؤادها ، سببه الدعوة إلى عدم نسيان الإرادتين معا ، إرادة الثورة الشعبية ، وإرادة الشر الذي تتزعمه إيران وأمريكا ، وقد أثبتت توجهات إعلامية مركزية عدة عن سمة مخابراتية تضليلية أستخدمت لايهام الناس وتضليلهم وتوجيه تفكيرهم صوب جهات تريدها امريكا ليس إلا.

 

 





الاحد٠٦ رجــب ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٧ / أيــار / ٢٠١٢م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. فارس الخطاب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة