شبكة ذي قار
عـاجـل










أخذ السلطان صلاح الدين يعد العدة ويجمع الجيوش ، ويهيئ الكتائـب ليوقع النكال الشديد بالإفرنج قاطبة ، ويسترد أرض الإسراء ، ومهبط النبوات ما وجـد لـذلك من سبيل .

كان هذا الوقت وقت حجاج المسـلمين ، فتأهـب صـاحب الكـرك إلى اقتناصـهم والاعتـداء عليهم وهـم راجعـون ، واسـتعد صـلاح الـدين لحمايتـهم بعـد أن أعلـن الجهـاد في كـل بـلاده ، وعسكر في ( قصر السلامة ) بالقرب من ( بصرى ) وظل فيهـا حتـى مـر الحجاج بامان ودعا الحجاج للسلطان صلاح الدين بالنصر والغلبة على قومٍ لا هم لهم إلا نكث العهـود ، ونقـض المواثيـق ، أعماهم التعصب والحقد، وأغلظ قلوبهم الجهل والعداوة فأوقعهم في شر ما يصنعون .

وبعد أن جمع صلاح الدين الجموع ، ونظم الجيوش عقد مجلـس شـوراه للتشـاور في منازلـة العـد و ، وتوقيـت المعركـة فـاتفقوا علـى الخـروج في ١٧ ربيـع الآخـر سـنة ٥٨٣ هــ بعـد صـلاة الجمعـة بـين تكـبير . (١ (المسلمين وابتهالهم ، وتضرعهم بالدعاء خرج صلاح الدين من دمشق ، ولما وصل رأس الماء جعله مركـزا لاجتمـاع الجيـوش ، وبقـي ولـده ( الملك الأفضل ) بـرأس المـاء وسـار هـو إلى بصـرى ، وسـار ( مظفـر الـدين كـوكبري ) إلى عكـا ، ومـن بصرى توجه صلاح الدين إلى حصن ( الكرك والشوبك ) ثم عاد إلى ( طبريـة ) ولم يـأل جهـدا رحمـه الله بل عمل على استنفار المسلمين ، واستنهاض هممهم للجهاد المقدس في سبيل اللّه ، وكان إذا رآه من رآه ، لا يراه إلا مهتما مغتمـا تعلـوه كآبـة الحـزن والأسـى .. بـل كـان عزوفًـا عـن الطعـام لا يتنـاول مـن الغـذاء إلا الشـيء اليسير ، ولما سئل عـن سـبب ذلـك أجـاب : كيـف يطيـب لي الفـرح والطعـام ولـذة المنـام وبيـت المقـدس بأيـدي الصـليبيين ؟ قـال صـاحبه ومرافقـه القاضـي ( بهـاء الـدين ابـن شـداد ) يصـف حالـه في حروبـه للصليبيين : " كان رحمه الله عنده من القدس أمر عظيم لا تحمله الجبال " وقال : " وهو كالوالدة الثكلـى ، ويجول بفرسه من طلب إلى طلب ، ويحث الناس على الجهاد ، ويطوف بين الأطلال بنفسـه وينـادي :

يا للإسلام وعينـاه تـذرفان بالـدموع ، وكلمـا نظـر إلى عكـا ، ومـا حـلَّ بهـا مـن الـبلاء ، ومـا يجـري علـىَّ ساكنيها من المصاب العظـيم ، اشـتد في الزحـف والحـث علـى القتـال ، ولم يطعـم في ذلـك طعامـا البت وإنما شرب أقداح دواء كان يشير بها الطبيب ، ولقد أخبر بعض أطبائه أنه بقي من يوم الجمعـة إلى يـوم الأحد لم يتناول من الغذاء إلا شيئًا يسيرا لفرط اهتمامه " .

وأيقـن الصـليبيون باتسـاع الخطـة الـتي دبرهـا صـلاح الـدين ضـدهم ، فاجتمعـت كلمـة رؤسـائهم وحشـدوا جمـوعهم ، وتوجهـوا إلى ( طبريـة ) وتقابـل الفريقـان في مكـان اسمـه ( حطـين ) أصـبح الصـباح وانتشرت حرارة الشمس المحرقة ، فأعانت المسلمين علـى الفتـك بهـؤلاء العطـاش لاسـتيلائهم علـى مواقـع الميـاه ، وهجـم البطـل صـلاح الـدين علـى الفـرنج هجومـا عنيفًـا فـرق فرسـانهم عـن مشـاتهم ، وتقهقـرت فلولهم إلى تلال حطين من شدة ما لاقوا من الهـول والشـدة والعطـش الشـديد ، وبعـد معـارك ضـارية بـين الطرفين انتصر فيها صلاح الـدين انتصـارا حاسمـا ، وانهـزم الصـلي بيون هزيمـة منكـرة لم يفلـت منـهم أحـد، وكانوا بين قتيل وأسير ، وبلغ عدد قـتلاهم عشـرة آلاف ، وفي تلـك الأثنـاء سـقط "أسـقف عكـا " قتيلًـا ووقع من بين يديه " صليب الصلبوت " فاستولى عليه المسلمون ، وكان ذلك من أعظم المصائب علـيهم ، المسلمون يزحفون نحو قمة الجبـل وأمـامهم الصـليبيون يتراجعـون َّوأيقنوا بعده بالقتل والهلاك ، وهكذا ظل والقتل والأسر يعملان في فرسانهم حتى بقي ملك بيت المقدس وحولـه ١٥٠ مـن الفرسـان ، فتسـاقطوا على الأرض لا يستطيعون حراكًـا مـن الإنهـاك والعطـش والخـوف .. وأسـر ملـك بيـت المقـدس، وأرنـاط موقد شرارة هذه الحـرب ، وأقيمـت للسـلطان صـلاح الـدين خيمـة اجتمـع فيهـا بـذوي الـرأي مـن أتباعـه ومستشاريه ، فسجد الجميع للّه شكرا على ما أنالهم من نصره ، ثم أمر بإحضار الملك " جاي لوزجنان " وصاحب الكـرك " أرنـاط " فأجلسـهما بـداخل خيمتـه ، وقـد أخـذ العطـش مـن الملـك كـل مأخـذ ، فطلـب مـاء فأحضـر لـه مـاء مثلوجـا ، فشـربه إلا قليلًـا منـه ثـم ناولـه صـاحب الكـرك، فقـال السـلطان حينئذا َّ

" إنا لم اعطه هذا الماء حتى يكون آمنا على نفسه " ثـم قـام وأنب صاحب الكرك وما صنعه مع قافلة المسلمين ، وتطاوله على مقـام النبـوة، ثـم ضـرب عنقـه بيـده تنفيـذًا لوعـده وبـرا بيمينـه ، وعند ذلك رعب الملك ، فطيب السلطان خاطره ، وهدأ من روعه وقال له : " لم تَجر عـادة الملـوك أن يقتلوا الملوك ، وأما هذا فإنه تجاوز حده فجرى عليه مـا جـرى " .. ثـم أمـر بـه فأرسـل إلى دمشـق هـو وبقية قومه بكل حفاوة وإكرام .

انتهت معركة حطين ، وكان النصر فيها حاسما لصلاح الـدين ، فلقـد هـزم فيهـا الإفـرنج الغاصـبون هزيمة منكرة .. لقد خاض جيش الإسلام المعركة وهو أحسن ما يكـون نظامـا وأقـوى مـا يكـون عـدة ، وأمهر ما يكون قيادة .. ولقد كان اختيار أرض المعركـة موفقًـا مـن الناحيـة العسـكرية والحربيـة .. لـذا كانت هذه الموقعة ضربة قاضية على فلول الإفرنج الصليبيين .

وبعـد الانتصـار الكـبير الـذي أحـرزه صـلاح الـدين في حطـين توجـه بقواتـه إلى مينـاء ( عكـا ) ، فاستسلم من فيها بأمان ودخلها صلاح الدين في جمادى الأولى سنة ٥٨٣ هــ ، وانتقـل الصـليبيون منـها إلى مدينة (صور) ، ثم وقع احـتلال المـدن والحصـون الـتي حـول عكـا مثـل ( تبـنين  - صـيدا - جبيـل بـيروت ) ، وبعـد ذلـك سـاير السـاحل ، وحاصـر ( عسـقلان ) مـدة أربعـة عشـر يومـا ، وانتـهى الأمـر باستسـلامها، وبـذلك نصـب صـلاح الـدين حصـارا علـى بيـت المقـدس ، وحـال بينـها وبـين الإمـدادات الصليبية التي كانت ترد إليها من الساحل ، وتوجه إلى ب يت المقدس بعد استلام (الرملة - - الداروم غزة - بيـت لحـم النطـرون ) وفي أثنـاء توجهـه إلى بيـت المقـدس أراد السلطان ألا يتعرض لبيـت المقـدس بسـوء ، ولا يمسـه بـأذى ، واختـار دخـول مدينـة القـدس صلحا دون أن يسلط عليها من قوة جيشه الهائلة ما يهدم أبنيتها ، وينتهك حرمة مقدساتها ، وكأنه أراد أن يعيد سيرة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه في فتحها مرة ثانية ، فأوفد الرسل إلى أهلـها يطلب منهم التسليم على شروطٍ وضَعها قائلًـا لهـم : " إنـي علـى اعتقـاد تـام بـأن القـدس هـي بيـت اللّـه المقدس كما تعتقدون ، وليس في عزمي أن أتعرض لبيت اللّه بأذى الحصـار أو ضـرر الهجـوم " ، بيـد أن الفرنج أبوا عليه ماأراد من غير أناة ولا نظر إلى العواقب ، وعلى إثر ذلك صمم السلطان صلاح الدين أن يسـتولي علـى المدينـة بطريـق الحـرب والمقاومـة .. ولم يمـض أسـبوع واحـد مـن المقاومـة الصـلاحية حتـى استسلمت القدس ، ورضي الفرنج بالصلح ، وتم الاتفاق علـى : " أن يسـمح لهـم بـالخروج في مـدة أربعـين يوما ، يدفع الرجل منهم عشرة دنانير ، والمرأة خمسة، والولـد اثـنين ، ومـن لم يسـتطع ذلـك فهـو أسـير " .

وقد نظم جبير قصيدة يمدح بها السلطان صلاح الدين بعد فتح بيت المقدس يقول فيها :

فضيلة فتح كان ثاني
خليفة من القوم مبديها وأنت معيدها بدأ السكان يجمعون متاعهم ويخرجون من حيث أمرهم السـلطان ، حيـث أقـام العمـال والمـوظفين لتسلم الفدية منهم وهم مفارقون ، وكان أول يوم بدأوا بالخروج فيه يوم الجمعة ٢٧ رجب ٥٨٣ هـ يـوم الإسراء ، فصدقت نبوءة محيي الدين بن الزكي قاضي دمشق حين قال مخاطبا للسلطان صلاح الدين :

وفتحكم حلبا بالسيف في صفر
مبشر بفتوح القدس في رجب

وقد أحضره السـلطان ليكـون خطيـب القـدس في يـوم الجمعـة الأكـبر في المسـجد الأقصـى بعـد أن انقطعت فيه الصلاة هذا الزمن كله منذ احتلال الفرنج له ، وقد كانت صلاة الجمعة يوما مشهودا وصـلاة مباركة ميمونة لكثرة من حضر للصلاة ، ولعظم الفرحة التي غمرت قلوب المسلمين.

وما أجدر المسلمين اليوم أن يفهموا هذه الحقيقة ، وأن يعلموا أن الإعداد للمعركة ، والوصول إلى النصر لا يكون بالدعاء (١ ( فحسب ، ولا بالالتجاء إلى اللّه وآفى ، بل الإعداد الصحيح للمعركة لا يكون إلا بإعداد القوة المادية ثم منازلة العدو في الميدان ، وفي أثنائها يكون الابتهال والدعاء واللجوء إلى اللّه في إنجاز النصر ، وقهر العدو، وهذا ما صنعه البطل صلاح الدين، وما فعله الخلفاء من قبله ، بل تأسوا بهذا الصنيع بمواقف النبي صل الله عليه وسلم في بدر وأحد والأحزاب وحنين ، حين كان يدعو وهو في قلب المعركة مع العدو : " اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لن تعبد في الأرض " مع أخذ الأسباب المادية ، وما أحسن ما قال بعضهم في إظهار هذه الحقيقة :

خلفت جيلًا من الأصحاب سيرتهم
تضوع بين الورى روحًا وريحانا
كانت فتوحاتهم برا ومرحمة
كانت سياستهم عدلًا وإحسانا
لم يعرفوا الدين أورادًا ومسبحة
بل أشبعوا الدين محرابًا وميدانا.





الخميس ١٠ صفر ١٤٣٨ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٠ / تشرين الثاني / ٢٠١٦ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الثائر العربي عبد الله الحيدري نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة