شبكة ذي قار
عـاجـل










الحراك الشعبي الذي انفجر في الشارع اللبناني في السابع عشر من تشرين الأول هو تسونامي الوضع اللبناني الجديد، وهو بأهدافه الحقيقية ثورة، لأن الثورات تقوم على إصلاح واقعٍ مختلٍّ وفاسد، لقد كلّف البرلمان الإيطالي في زمن المافيا الجنرال"دالا كييزا" لمحاربة المافيا في صقلية، فسأله أحد العمال : جنرال، ماذا تريد أن تفعل هنا؟ أتريد أن تُحدِثَ ثورة؟ فأجابه "دالاكييزا" مبتسماً : ثورة!!فقط أريد أن أطبق القانون.فأردف العامل : أوَليس هذا ثورة؟.نعم الثورة في حقيقتها هي تطبيق القانون في زمن مختل.

وهذا ما يرمز له الحراك الشعبي الذي كان تأريخاً لولادة عصر جديد وحالة معلّقة بين احتضارالقديم وتعسُّر ولادة الجديد في وطن نخره الفساد، وعلى مستوياته كافة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وتركيبة سكانية تَطَيَّفتْ وتمذهبتْ حتى فقد الوطن صفته الجمعية على مدى مراحل عمره التأسيسي وإعلان وجوده وطناً له جغرافية وفيه شعب، وقد أدى هذا الفساد المستشري إلى خلل وطني، لو تُرِكَ له العنان لاقتلع كينونة الوطن وجعله نسْياً منسيّا، ومعروفٌ أن الفساد لم يأخذ حالة سكونية ليستطيع الوطن تحملها إلى حين، وإنما كان مستشرياً ومتصاعداً كسرطان يأكل كل يوم قطعة من جسد هذا الوطن الذبيح.

ومن هذا الواقع المأساوي المتردي كان الحراك الشعبي بمضمونه وأدواته وامتداداته ثورة إنقاذية بتوجهاتها وأطُرها الهادفة إلى خلق وطن آخر يقوم على المواطنة الصحيحة والصحية المُلْغِية ما عداها من بؤرٍ وعاهات وانهيارات.وكان من أبرز علامات هذه الانهيارات الفادحة أن الذين يمارسون نهب الوطن وسرقته ونقله إلى الخارج هم أنفسهم القائمون بالأمر فيه، وهم ساسته وسُرّاقُه باسم صيانة وجوده، ومعروف أن الطعام إذا فسد يُصْلَح بالملح، فما العمل إذا فسد الملح نفسه.

إن السلطة في لبنان فاسدة بكل أطرها، وقد وصل الأمر إلى اعتراف أركان هذه السلطة التي لا أركان لها إلا الفساد بكل معانيه وتفاصيله بفسادها وفسادهم.وسنحاول في هذا الموضوع رصد ما قام به الحراك الشعبي، وما أنجز، وما عليه أن يُنجز مستقبلاً.وما الصعوبات التي تعترض مسيرته لأنه نقيض السلطة التي أوصلتنا إلى مراحل تحتاج قدرات خارقة لتجاوزها.إنها سلطةٌ تعمل بإيقاع غير محلّي، مع كل فسادها الداخلي.

وسنحاول الدخول إلى وضع وطروحات وواجبات الحراك الشعبي.
١ ــ الحراك الشعبي اللبناني هو استجابة لصوت الشعب الغارق في أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية، إنه تعبير عن حلم لم يُتَحْ له أن يتبلور إلا عندما بلغ السيلُ الزُبا، وكان لا بد منه كانتفاضة ثورية بعمقها لإنقاذ الوطن من السقوط الحتمي والتلاشي.وكلما اشتدت الأزمات يكون الخروج منها بنقيضها، والثورات التي غيّرت مجرى التاريخ انطلقت كلها من واقع مناقض للواقع ومؤلم وفاجع كان يستوجب وجود نقيضه.إذن فالظروف الصعبة التي يعاني منها الشعب اللبناني كانت تستدعي الإنقاذ، وكان الحراك الشعبي هو المنقذ الحقيقي والوحيد بعدما فشلت كل الأطر الأخرى عن التغيير.

٢ ــ كتلة الحراك الشعبي الحقيقية تكوَّنت ولم تزل تتكوّن خارج أمراض الطائفية والمذهبية، إنها تقوم على تجانس المكوّنات الحقيقية للحراك الشعبي الذي هو المخلّص والمنتظر الذي وُلِد ليملأ الوطن حركة إيجابية واعدة بعد أن كان غارقاً في الفساد.ونفي حضور المذهب والطائفة سلوكياً جعل الحراك صادقاً وقوياً وصامداً ونقيضاً للسلطة القائمة على الطائفة والمذهب، ومن هنا كانت خطورة الحراك على السلطة الغائصة في كل عاهات التطيُّف والتمذهُب، والتي لا قوة لها ولا حضور إلا باستنفار الطائفة والمذهب، وإذا كانت تدعي أنها قائمة على ديموقراطية برلمانية وصلت باسم الشعب لتمثل الشعبإ فإننا نقول : إنه منافق كل من يدعي أن الانتخابات في لبنان تقوم على المبادئ.فمن يتجرأ أن يقول إن انتخاباتنا تقوم على المبادئ.ولهذا استمر الحراك الشعبي بنفي حضور السلطة الفاسدة في الشارع رغم كل الشوائب التي حاولت كل قوى السلطة وأتباعها إلصاقها بالحراك الشعبي الأصيل.كان الناس يسيرون معاً تحت علم الوطن، وليس تحت علم الطائفة أو المذهب.وللأسف استخدمت الطائفة والمذهب ضد الحراك بعنف، لأنّ ملوك الطوائف والمذاهب يدركون جيداً أن انكسار الكرسي الطائفي والمذهبي يعني زوالهم وجرّهم للمساءلة والجزاء.استُخدِمت هذه الأساليب المكشوفة عبر الجهلة والمرتشين والمدسوسين يتوجيه واضح من السلطة الفاسدة صاحبة المصلحة بإيقاظ المذهب والطائفة لأنهما عدة شغل مورستْ لأجيالٍ وأجيالْ.وقد حاول كثير من السياسيين ركوب الموجة المذهبية، ولكنهم سقطوا أكثر لأنهم كانوا مكشوفين بممارساتهم المناقضة لحركة الشارع، لقد حاولوا التستر بالطائفة والمذهب، ولكن الشارع المنتفض كان يقول لكل واحدٍ منهم :
وَلَنَحْنُ أدرى إنْ أردتَ تخفّياً ماضي السياسة واضحٌ يتلالا

وكانت تصريحات بعض المسؤولين في السلطة تكشفهم بتناقضاتها ومَيَلانها مع الريح حيث تميل.وكانت تصريحاتهم تبين انحرافاتهم كلما تزيّوا بالإرادة الشعبية، وكان الحراك يدري من همُ ولمنْ همُ.كان الحراك الشعبي واضح الرؤية والرؤيا، ولم يكون ملوّثاً ولا خاضعاً لبرمجة المفسدين سارقي دم الشعب.

٣ ــ كانت كتلة الحراك في معظمها قائمة على عنصر الشباب لامتلاكه القدرة على التحرك، لقد كان عنصر الشباب آلة الفعل على أرض الواقع، ولكن ذلك لم يُلْغِ مشاركة المتقدمين عمراً، وحتى الأطفال.فكنتَ ترى متظاهراَ جاء حاملاً طفله على كتفيه، وترى طفلاً صغيراً يسير بجانب والده أو جدّه وحاملاً شعاراً ضد السلطة الفاسدة والمفسدة.وربما ترى مغترباً لبنانياً جاء ليرى أهله، ولقضاء إجازة في وطنه فهالته أكوام القمامة، ونزل إلى الشارع وانضم لكتلة الحراك القوية الاندفاع والتأثير.

٤ ــ وكانت سلمية الحراك من أقوى أسلحته ضد السلطة التي حاولت مراراً وتكراراً عسكرة الحراك وجره إلى الفتنة ليسهل قمعه واتهامه بالتخريب، وكان الحراك يدرك هذا جيداً، وكان يشير إلى من سخرتهم السلطة للتخريب لتلصق التهمة بالحراك، ولو مارس الحراك الشعبي أي نوع من أنواع الخلل السلوكي لانفض عنه الناس وعادوا إلى حيث كانوا.لقد كانت سلمية الحراك والإصرار عليها دليل وعي ثوري متقدم.ورغم أن الحراك كانت حركته انفجاراً سريعا واستجابة لصراخ الشعب إلا أن الحراك بدأ يحاول الاستفادة من أخطاء مر بها، وصار يحاول وضع استراتيجية واضحة الغايات تجمع وتضع نقاط الخلاف جانباً.

وقد أدرك الحراك هذه الحقيقة فراح يركز على القضايا التي يؤمن بها الجميع، ولذا كان النضال المطلبي أكثر ما يجمع المنتفضين الذين كانوا صادقين ومدركين وواعين ماذا يمكن عمله وما الذي عليهم أن يتجنبوه.وعقلانية الحراك وقوة اندفاعه المرتكزة على مطالب شعبية جعلت السلطة رغم كل الفساد الذي ينخرها تعترف بأحقية التحرك وشرعية نزوله إلى الشارع.ولو بغصة واضطرار.

٥ ــ لقد كان الحراك يضم ناشطين لهم تجارب حزبية وسياسية، ولكنهم حاولوا أن يتجنبوا بوعي خصوصياتهم الحزبية دون أن يتخلوا عنها واستطاعوا أن يؤكدوا جماعية التحرك ومنع خلخلته بالتجاذب السياسي، وقد صار كثير منهم معروفاً للجميع.واستفاد الحراك الشعبي من الضعف الشعبي الذي كان يؤيد قوى ١٤ آذار أو ٨ آذار والمنحاز له.لقد تناوبت هاتان القوتان على السلب والنهب وتغطية السرقات والسمسرة في الاتجار بالمناصب السياسية.وهذا جعل المطالبة بالحراك الشعبي أعلى.واستفاد الحراك الشعبي من أخطاء السلطة ليتعمق أكثر في شرعيته.إذ قام بعض المتنفذين في السلطة بتنصيب أقاربهم في أعلى مسؤوليات الدولة وكانوا أجهل الناس في تسيير أمور الدولة؛ وبعض هذه القوى في السلطة حملت البلد أثقل من قدرته على التحمل وزجّ لبنان في أتون أحلاف مذهبية / عسكرية مدمرة، تتجاوز لبنان إلى الوضع الإقليمي برمته، وكان البعض الآخر من أركان السلطة ضعيفاً إلى درجة كبيرة، وهذا جلب للبلد تبعات لمصلحة كل من هم خارج لبنان.وقد أدى هذا كله إلى ضعف الدولة وانهيار اقتصادها وغلبة الفقر ووصول كثير من فئات الشعب إلى مرحلة الجوع.

٦ ــ أصالة الحراك الشعبي كانت قبل كل شيء منطلقة من مبدئيته واستجابته لصوت الشعب الذي عانى كثيراً من فساد كلتا الحالتيْن ، الثامن من آذار والرابع عشر منه، وازدادت قوة الحراك بازدياد تخلي الناس عن القوتين اللتين لم يبق لهما قوة بسبب انكشافهما وجوع الناس وانحدار الوطن إلى حدود الانهيار.لقد فتح شباب الحراك وشابّاته أعينهم على دنياهم مع الانقسام المصلحي والسياسي الموالي للخارج وصراعهما الكبير على سرقة الوطن والمواطن.لقد جعلوا لبنان كله سوليدير واسعاً تحرسه الممتلكات البحرية والنفعية والقوى المشبوهة التي وصلت بقدرة قادر مشبوه إلى الحكم.والتي حولت العمل السياسي إلى ما يشبه مسرحية من مسرحيات بريخت.لقد سقط القناع عن الوجوه الكاذبة وكان الحراك نتيجة منطقية لسقوط جناحي السلطة المتَسَلَّط عليها من الخارج ومن إقطاع سياسي داخلي في آن.

٧ ــ ونتيجة لسرعة الحراك وغضبه وانفعالات الضرورة وقعت أخطاء، ولكنها لم تكن خطايا، لأنها لم تكن ناتجة عن قصد شرير.أما دليل بعض أخطاء التحرك فقد كانت نتيجةً لغضب بعض من المشاركين، وتكسيرهم إشارات المرور، وواجهات بعض المحال التجارية وإقدامهم على بعض الأعمال التخريبية، لكنها تبقى ضمن ما تحمله التظاهرات من هوامش خطأ، لا سيما إن كانت شعبية عفوية يسهل اختراقها ولا يضبطها حسن النوايا وعقلانية الحدث وضرورة الانضباط ليبقى الحراك مصوناً من محاولات تشويهه، ولكي لا تستخدمه السلطة لقمع التظاهر بحجج واهية.وعلى بعض أطراف الحراك الشعبي والمدني أن لا تهبط إلى المستوى الطائفي والمذهبي تحت سقف المطالب المحقة، والتي هي ضرورات حياتية وأخلاقية.

وللشعب حق في نقد المتحركين لمنع استبدادية الانتفاضة والانخراط في أخطاء قد تؤذي الحراك وتبعده عن خطه السَويّ.وفي السلوك العملي كان لا بد من وقوع أخطاء.ورؤية الخطأ هي أنجع الوسائل للتصويب.لأن التحديات التي تعترض مسيرة الحراك كانت كبيرة ولا تزال، فالبحر من ورائهم والعدو أمامهم.وستجتمع في مواجهتهم قوى أكبر منهم رغم تخلخلها، ولكن إمكانياتها عالية مادياً وسلطوياً، إنها قوى العهد القديم على اختلافها وتعددها.وهي، بالقمع أو بالكذب وبالاثنين، ستحاول تبييض زعماء لبنانيين وتلميع صورهم، ولكن هيهات لهم ذلك.نعم لقد سقط القناع عن الوجه الكاذبة.وانكشفت سوءاتهم، وتحولوا إلى مادة للنقد والسخرية والصور الكاريكاتورية، والأحاديث المتداوَلة عنهم بين الناس.والذي يراقب ويقرأ ما يُكتب على وسائل التواصل الاجتماعي يدرك كم أصبح سياسيو لبنان خارج الوجدان الجمعي وداخل الدوائر المضحكة المبكية.لقد يبسوا فوق الكراسي وتحولوا إلى خُشُبٍ مسنَّدة تنتظر لحظة الحركة القاضية عليهم وعلى كراسيهم في آن.

ما الطلوب من الحراك ؟
١ ــ أن لا ينجرّ إلى بعض الانحيازات الطائفية أو المذهبية، فكثير من الفقراء والذين نزلوا إلى الشوارع مُحِقّين ومطالبين بحقوقهم كانت تصدر من بعضهم سلوكيات مذهبية وطائفية، وهذا غير مقبول.وهو حتماَ سيشوِّه الحراك، ويساعد السلطة الفاسدة في القضاء على الحراك الصحيح باستغلال بعض الأخطاء.

٢ ــ على الحراك الشعبي المدني الحفاظ على سلميَّته مهما كانت الوسائل القمعية الموجهة ضده.فسلمية الحراك هي أقوى أسلحته.إن السلطة بكل أركانها تحاول جر الحراك إلى الاشتباك معها لتبرير استعمال القوة المفرطة ضده، وشواهد تحرك السلطة في هذا المضمار أكثر من أن تُعَدَّ وتُحصى.سلمية الحراك ستجعله ينتصر حتماً لأنه سلاح واعٍ، فإذا كانت الحروب تحتاج أسلحة للقتال، فإن النصر يحتاج عقلاً لتحقيقه.وقد يكون السلاح أحياناً كثيرة من أسباب قتل حامليه، "رُبَّ حاوٍ رداهُ في ثعبانه".

والطائفية هي أقوى أسلحة السلطات المتعاقبة في لبنان، ولا نزال نذكر ما قال نبيه بري” لولا الوضع الطائفي في البلاد لكانوا سحبونا من بيوتنا”.إذن على الحراك الشعبي أن يسحب هذا السلاح القذر من يد السلطة ليستطيعوا سحب أركان السلطة كلهم من بيوتهم سواء من كان في السلطة أو في المعارضة الوهمية .. لقد وقف المنتفضون جنباً إلى جنب في ساحات البلاد دون أن يسأل أحد من وقف معه وبجانبه عن طائفته ومذهبه.جميعاً وبصوت عالٍ كانوا يرددون بإيمان وقناعة : "كلنا للوطن".

نعم إننا لا نستطيع أن نبني وطناً يتمتع بديموقراطية حقيقية إذا تحالف الطائفيون والمذهبيون، لأنه اتفاق مصالح، ولو على حساب الجائع والفقير.إن سوء الحالة في أي مجتمع من المجتمعات يتولد من سوء القائمين عليها.

٣ ــ على الحراك أن يستفيد من تجربته الرائعة ويضع أسساً أثبتت صلاحيتها لتصبح ذات صفة سلوكية وفكرية لضبط آلية التحرك وعدم انجراره إلى أي خطأ.إن وحدة الموقف تستدعي وحدة الرؤية والسلوك.

٤ ــ الابتعاد قدر الإمكان عن فئوية الطرح بسبب وجود مشارب سياسية مختلفة، ولكنها مُجْمِعة على الموقف المطالب بالتغيير واقتلاع كل أركان السلطة الفاسدة.هناك مواقف سياسية مختلفة لكثير من المشاركين بفاعلية في الحراك، وعلى الحراك عدم التعرض لها إلا بمقدار ما تمس وحدة الوطن والنهوض به.إن القضايا المطلبية توحد المتنافر بين القوى الحراكية على أرض الواقع، فالغلاء بدأ يمنع كثيراً من الناس من شراء ربطة الخبز، وبعض العائلات تكتفي بوجبتين لتوفير وجبة، ثم إنّ هبوط القيمة الشرائية لليرة اللبنانية تترك للسلطة مجالاً للتحكم بخبز الناس وأدويتهم وحتى بقائهم أحياء.

لأن الدولار يزداد ارتفاع سعر شرائه وانتشار الحاجة إليه كما تزداد سرعة الخلايا السرطانية في جسدٍ مريض منهك.وما يزال يبحث عن وسائل ضغط كثيرة لتركيع الوطن والمواطن وخدمة الفاسدين في السلطة.ولا ينخدعنّ أحد بجدية أمريكا في معاقبة الفاسدين سلطة ومعارضة، هذا إذا كان هناك معارضة حقيقية بين من هم في السلطة ومن هم خارجها.إن أمريكا تمتد بشركاتها وعملائها فينا بواسطة السلطة الفاسدة التي تبيع موقفاً ومواقف بكرسي رجراج.فالسلطويون في لبنان يتزاحمون على كراسٍ وُضِعتْ بعناية.وأمريكا هي من أقوى من يضع لهم الكراسي، والولاء لها هو أقوى عناصر قوة سلطتنا الفاسدة، لأن مزيداً من الانهيارت يؤدي إلى مزيد من الارتماء في أحضانها.

٥ ــ على الحراك المحافظة على شعار "كلن يعني كلن" لأن السلطة فاسدة بكل حيثياتها وتركيبتها ونظرتها السياسية لمفهوم الوطن السليم المعافى، فالذي لم يكن فيها مضطراً للسرقة أو الفساد، إذا وُجِدَ، فهو حامٍ للفساد ومدافع عنه.وهذا الواقع يُلبس الحقيقة وجهاً منافقاً وكاذباً.إن عدم الاقتناع بأن السلطة كلها فاسدة حاكمة ومعارضة يقودنا إلى الخلاف في التحرك، ونكون كمن يملأ برميلاً لا قعر له.إن العنوان المطلبي كان أبعد ما يكون عن الانقسام السياسي وتشعباته الطائفية والمذهبية.ولم يكن من الممكن لمثل هذا العنوان أن يكون محل خلاف على أرضية الواقع الشعبي الذي يعاني ويسرق الآخرون معاناته.العناوين المطلبية كثيرة يمكن أن يتجمع حولها المتظاهرون، وتزيد أعدادهم، خصوصاً إذا أديرت بحكمة ووعي.

٦ ــ على الحراك أن يرفع طروحاته ومطالبه بموازاة القوة المتوفرة لديه، لكي لا يغرق الحراك في رومانسية فضفاضة، تؤذي أكثر مما تُصلح.إنّ واقعية المطلب الجماعي عند الناس مرتبطة بالشأن الحياتي المطلبي، ولكن يجب أن تكون هذه المطالب مرتبطة أيضاً بضرورة وجود وسلامة مؤسسات الدولة بمعناها التأسيسي مع رفض ممثليها المتعاقبين على الفساد والنهب والارتباط بالخارج.نعم يجب رفع المطالب، ولكن عبر جَمْهَرةِ الشارع أولاً، وكثافة حضوره وتواجده في الشارع، لأن الشعب هو الكتلة الصلبة التي يجب أن يرتكز عليها أي حراكٍ ناجح وقادر على إحداث التغيير باتجاه الأفضل دائماً.والشعب في حقيقته يمتلك إحساساً فطرياً سليماً بما يؤمّن وجوده الحياتي، وعدم قلقه على مستقبل أبنائه.فالحراك الشعبي يعي هذا، ويعرف مدى استجابة الشعب له، ويميز بفطرته السليمة بين جدية طرح المطالب واستغلالية الانتهازيين السلطويين لركوب الموجة وتخدير الرأي العام.، والحراك يجب أن يعيَ هذه الحقائق ويعمل بوضوح على إنجازها مع كشف ألاعيب الفاسدين والمفسدين، ومستغلي الحراك لتشويهه ومحاربته وحرفه عن جدارته بحتمية التغيير.

٧ ــ على الحراك المدني الشعبي أن يُدرك أنه يسير في طريق مملوءة بالمذأبات والمتآمرين، وأدعياء الإصلاح، والانتهازيين، وأزلام السلطة، والتدخلات الخارجية ذات المصالح المتناقضة مع أهداف الحراك، وهذا يعني أن المنتفضين لن يصلوا إلى مطالبهم إلاّ بالعبور "على جسرٍ من التعب".إذن مطلوب من الحراك المدني الشعبي وكل المنتفضين أن يكونوا واعين ما يعترضهم، وعليهم أن يصبروا ويصابروا، لأنه لا يحق للمناضل أن يُمرْحِلَ عمله، فالنضال هو صمود وديمومة.وعلى المنتفضين أن يعوا هذا وأن يظلوا مصرِّين على حتمية الوصول، وبلوغ الغاية التي يناضلون من أجلها، إن السلطات المتعاقبة على هذا الوطن لم تُرْخِ من مخالبها شيئاً.لقد مارست هذه السلطات خصخصة ممتلكات الدولة وفصْفَصَتْها.

إذن المعركة قائمة مع ذئاب السلطة، ولا بد من التسلح بالأمل لمواجهة هذه الذئاب لأن فقدان الأمل يقتل التجربة ويقوض كل مقوماتها.إن تجارب الثورات كلها عبر التاريخ تحكي لنا وتخبرنا عن الأثمان الباهظة التي يتطلبها التغيير، إن الجهة المستفيدة من الفساد لن تقف مكتوفة الأيدي، وستستعمل كل قدراتها للدفاع عن امتيازاتها التي حظيت بها من عقود وعقود.وستتهم الثوار بالارتباط بالسفارات وخيانة الوطن، وكل ذلك يعني محاولة تثبيت وجودهم في السلطة.على الحراك الشعبي أن ينظف إسطبلاتنا السياسية من الطائفية وسياسييها.بعد اليوم لا مجال للأذان في الخابية، لا بد من العلنية في المواجهة الحتمية مع الطائفية والمذهبية والقائمين عليها.بالقضاء عليها نستطيع أن نكون أبناء وطن واحد، ولسنا أبناء أوطان متعددة.

على الحراك الشعبي أن يستمر لأن الاستغلال السلطوي مستمر، وعليه أن لا ييأس حتى ولو طالت المدة، لأن الأماني الكبيرة تحتاج تضحيات أكثر، ولا بد من محاربة اليأس لأن السلطة بإعلامها تحاول أن تزرع اليأس في صدور الناس.إن الحراك الشعبي بحسه العميق يدرك أن لبنان يمر بحالة احتضار القديم، ولكن مع صعوبة الولادة الجديدة.

٨ ــ على الحراك المدني الشعبي أن يعي أنّ نضاله المطلبي هو في حقيقته وغاياته العليا هو نضال سياسي بامتياز، لأن الصفة الأساسية المتحكمة بتصرفات السلطات المتعاقبة عندنا هي السرقة والنهب ومحاربة الإصلاح ليظل الناس جوعى وتحت إمرتهم وفسادهم، ولذا عندما يقفون ضد الحراك الشعبي المدني إنما يقفون مع مصالحهم، ويكونون مدركين أن النضال المطلبي هو السيف المجرد دائماً فوق رؤوسهم، وسيؤدي إلى اقتلاعهم ومحاسبتهم وجرهم إلى المعتقلات.إنهم يعون هذه الحقيقة، ويعرفونها كما يعرفون أبناءهم.إذن فالنضال المطلبي هو بوّابة الإصلاح السياسي، وهو الخلاص من الارتهان والوصاية واستقلال القرار السياسي، والعودة إلى الوحدة الوطنية الحقيقية لأن الحراك يعي أين مجاري ومصب كل هذي السواقي الملوّثة سياسياً واجتماعياً وأخلاقياً.

فمجموعات ٨ آذار، بقيادة حزب الله، تروج أن التحرك مدعوم من السفارات الأجنبية، ويحمل أجندات مشبوهة ومستوردة من الخارج، حتى لكأنهم ليسوا أبداً من أتباع الخارج، ومجموعات ١٤ آذار، بقيادة تيار المستقبل، تصف المتظاهرين بأنهم من “سرايا المقاومة” التابعة لحزب الله.إن الفريقين مجمعان على توصيف الحراك بالارتباط الخارجي.وهي المرة الأولى ربما التي تتفق فيها التيارات السياسية السلطوية المختلفة في لبنان على شيء، هو معاداة هذا التحرك الشعبي.وسبب هذه المعاداة هو دفاع السلطة عن امتيازاتها وتهرباً من العقوبات التي تنتظرها في حالة نجاح الحراك المدني الشعبي في تحقيق ما يعمل من أجله.

٩ ــ لقد كسر الحراك الشعبي جدار الخوفٍ الذي بنته السطات المتعاقبة التي بُنيَتْ على أساس طائفي يعتمد المحاصصة من الأسفل إلى الأعلى بصرف النظر عن وصول الإنسان المناسب إلى الموقع المناسب.لقد تحطم جدار الخوف شعبياً بعد أكثر من ٧٢ عاماً من الاستقلال بعد أن انحدرت البلاد إلى الحضيض، مع انتشار النفايات في كل مكان، وسيطرة الغلاء وتهريب ما نُهب من الوطن إلى الخارج.لم يعد أمام الناس خيار سوى الانتفاضة لأن الانتظار يعني الهلاك أو الفوضى غير الخلاقة.منذ فترات تحوّلت مجاري الأنهار والوديان إلى مكبّات ومطامر مُستحدثة، وكأن الناس في لبنان حقل تجارب، أو مجرّد دافعي ضرائب لطبقة فاسدة لا تعرف أدنى مقوّمات الإنساني، ومازالت ممعنة في فسادها وسرقاتها وارتباطها بكل ما يهدم بنيان الوطن.لم يكن يتوقع أحدٌ أن يقف لبنانيون ويقولون “كفى”.

ظنّت قوى السلطة المتعاقبة من أجيال أن البلاد لن تشهد حركة اجتماعية قد تتحوّل إلى ثورة، واعتبروا أن الموت البطيء الذي يعيشه سكان هذه الأرض لن يجعلهم ينتفضون.لقد نزل الشارع ليقول لهذه السلطات كفى.وبصرف النظر متى يتحقق النصر وتزول هذه السلطات بما ترمز إليه فقد كان الحراك الشعبي هو بداية التحول والتغيير المنتظر.نعم الشعب إذا أراد يصنع المعجزة، وعلى القدر أن يستجيب.وهذه هي الحتمية التاريخية.

١٢ / ٦ / ٢٠٢٠
 





السبت ٢٢ شــوال ١٤٤١ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٣ / حـزيران / ٢٠٢٠ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب مكتب الثقافة والاعلام نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة