شبكة ذي قار
عـاجـل










لقد كانت ثورة تموز ١٩٥٨عظيمة ،هزت الوجدان العربي من المحيط إلى الخليج ، وأعطت دفعا لحركة التحرر العربي، وأججت حماس الجماهير العربية المؤمنة بحتمية الوحدة، وقربت الآمال لتحقيقها ، ولكن انحراف عبد الكريم قاسم بهذه الثورة بعيداً عن منطلقاتها الأساسية والمبادئ التي أعلنتها في اليوم الأول، ووقوفه بشكل معادي للقومية العربية، ومحاربته للقوى القومية الوطنية، منذ الأشهر الأولى لانطلاقها، دفع هذه القوى والأحزاب ومنها حزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان طليعة الأمة العربية وقائداً لجماهيرها في العراق أن تعود إلى ساحة النضال من أجل تصحيح الإنحراف بشتى الوسائل والإمكانيات، ومنها العمل على إسقاط هذا الطاغية المستبد، وإعادة الثورة إلى مسيرتها الحقيقية في بناء عراق متحرر مزدهر سعيد مستقل الإرادة بعيداً عن التبعية.

فقد شرعت سلطة عبد الكريم قاسم بسلسلة من الاعتقالات والإعدامات والمطاردة منذ الشهر الرابع للثورة التي طالت القوى الوطنية والقومية، والتي تعرضت لشتى أنواع التنكيل والمضايقات، فأصاب الحزب الأذى والملاحقة النصيب الأكبر، وتصاعدت أعمال السلطة القمعية خلال السنة اللاحقة، أي في سنة ١٩٥٩ إلى عنف أكثر دموية، منها القتل والسحل والإعدام والتشريد والسجن والملاحقة للمناضلين، وخاصة بعد حركة الشواف ،وما رافقها من تنفيذ شعارها المعروف الذي يرمز بالحروف ( س ح ق ) والذي يعني ( سحل حرق قتل ) ، لكل من يعادي عبد الكريم قاسم والشيوعيين ، الذين انفردوا في الساحة السياسية.

لقد واجه البعثيون وشركائهم من القوى الوطنية والقومية، وضعاً شاذاً للغاية بعد أن فرط عبد الكريم قاسم بآمال الجماهير، يسانده الشيوعيون والحركة الشعوبية، تمثلت في المظاهر التالية :

١. استيلاء عبد الكريم قاسم وانفراده بالسلطة ليتوج نفسه حاكماً فردياً دكتاتورياً.

٢. هيمنة الفئات الشيوعية والشعوبية، على كل مؤسسات الدولة، وتسخيرها لخدمة الحزب الشيوعي الذي يأتمر بالخارج، ويتلقى الأوامر من هناك.

٣. مطاردة وملاحقة جميع الأحزاب القومية والوطنية التي وقفت ضد الهيمنة والتبعية للاجنبي وشاركت بفاعلية في إنجاز ثورة ١٤ تموز.

٤. اعتقال وإبعاد ومطاردة وعزل والإحالة على التقاعد للضباط الذين ساهموا بشكل فعال في ثورة تموز.

٥. سوق مجموعة كبيرة من الضباط الأحرار إلى سوح الإعدام وخاصة ما جرى في مجزرة أم الطبول في يوم ٢٠ - ٩ - ١٩٥٩ عندما أقدم عبد الكريم قاسم على إعدام تسعة عشر ضابطا من خيرة ضباط الجيش العراقي ومنهم زملائه قادة ثورة ١٤ تموز الشهيد ناظم الطبقجلي والشهيد رفعت الحاج سري وغيرهم رغم شدة وغزارة المناشدات الشعبية والمراجع الدينية الوطنية منها والعربية التي دعته الى عدم تنفيذ تلك الاحكام الجائرة.

٦. عملية استهداف عبد الكريم قاسم حيث تمت المحاولة في يوم ٧ - ١٠ - ١٩٥٩ أي بعد ١٧ يوما من تنفيذ جريمته تمت معاقبته على جريمة مجزرة أم الطبول وغيرها وذلك في شارع الرشيد التي نجا منها بحكمة من الله تعالى لكي يبقيه ليوم يذل فيه ويخزى ويعاقب على جرائمه التي لا تعد ولا تحصى، ولو انصاع عبد الكريم قاسم إلى نصائح الوطنيين والمراجع الدينية بالامتناع عن إعدامهم لكان خيراً له في الدنيا والآخر.

٧. نشر شعارات معادية للشعب والأمة تتقاطع مع تراثنا العربي والإسلامي ومتناقضة مع أساسياته وقيمه وثوابته، مثل ( ماكو مهر بس هل الشهر والقاضي نذبه بالنهر ) , ( سنمضي سنمضي إلى بور سعيد ونسحق جمالا وأحمد سعيد ).

٨. التنكيل بالشعب بمختلف طوائفه بهدف الترويع وتصفية أي معارضة شعبية، وتنفيذ مجازر بشعة في الموصل وكركوك وغيرها من مدن العراق، والتي كانت بتشجيع السلطة وحمايتها وإسنادها.لعناصر الحزب الشيوعي.

٩. فرض العزلة التامة للعراق عن محيطه العربي، والاكتفاء بحكم دكتاتوري تحت شعار ( ماكو زعيم إلا كريم ) و ( جمهوريتك ياكريم مستحيل إصير إقليم ) و ( الجمهورية العراقية الخالدة ) ، وغير ذلك.

المحاولات المتعاقبة للخلاص من عبد الكريم قاسم

لقد قامت القوى الوطنية بعدة محاولات للخلاص من عبد الكريم قاسم ونذكر منها ما يأتي :

١. حركة الشواف ١٩٥٩ وما تبعها مباشرة من مجازر في الموصل ،ومن ثم في كركوك والتي توسعت لتمتد إلى بغداد وغيرها من المحافظات ( الألوية ) ، والتي ترفض الحكم الدكتاتوري المدعوم شيوعياً وشعوبياً، وخاصة ما قام به الشيوعيون بدعم من عبد الكريم قاسم من تشكيل محاكم صورية للمناضلين البعثيين والقوميين سموها ( المحاكم الثورية ) ، واسندت لهم شتى التهم لا لشيء الا لإيمانهم بدينهم وعروبتهم وحبهم لوطنهم ، كالمحكمة القصابية بقيادة القصاب عبد الرحمن القصاب وعدنان جلميران عضوا اللجنة المحلية للحزب الشيوعي في الموصل ، ومحكمة الاسكافي التي عرفت باسم ( محكمة حسن الركاع ) في المسيب، والتي كانت تقام في الشوارع والساحات العامة.وسحل الشهيدة حفصة العمري وهي شابة تبلغ من العمر ( ٢٢ ) عاما حيث قتلوها بالمدي والعصي بعد قتل والدها أمامها ، وسحلها في شوارع الموصل، وعلقوا ما بقي من جثتها الطاهرة على أعمدة الكهرباء، وجريمتهم البشعة في مدينة الكاظمية حيث قتلوا الشهيد أموري الطويل بالقناني الزجاجية للمياه الغازية والسكاكين وسحلوا جثته عبر شوارع المدينة، وعبروا بها جسر الأئمة.وهم يرددون شعارات مثل ( ما كو مؤامرة اتصير والحبال موجودة ) وشعار يخاطبون به عبد الكريم قاسم ( إعدم إعدم لا تكول ما عندي وقت إعدم ).

٢. محاولة القضاء على عبد الكريم قاسم شخصياً في شارع الرشيد التي قادها ونفذها شباب من حزب البعث العربي الاشتراكي بعد ان توضح لجميع العراقيين ان قاسم سرق الثورة وغدر بالضباط الأحرار قادة ثورة ١٤ تموز، الذين عاشوا معه وقاسموه الحياة المشتركة لسنين طويلة.

٣. انتفاضة البنزين ( اضراب السواق بعد رفع سعر البانزين ) التي قادها حزب البعث العربي الاشتراكي والتي جابهتها سلطات عبد الكريم قاسم بالقمع والاعتقال وسقط فيها شهداء منهم الشهيد مؤيد الملاح.

٤. الإضراب الطلابي عام ١٩٦٢ والذي هيأ المقدمات الأولى لثورة شباط الباسلة عام ١٩٦٣.

٥. التغيير الجذري في يوم الرابع عشر بثورة رمضان المباركة من عام ١٣٨٣هـ حيث قام الجيش العراقي بدك معقل ( الزعيم الأوحد ) عبد الكريم قاسم بقيادة وبمشاركة مناضلي وكوادر وأعضاء وأنصار ومؤيدي وأصدقاء حزب البعث العربي الاشتراكي ومن تحالف معهم من القوميين والوطنيين الغيارى، والتي برز فيها حسن التخطيط، ودقته، وبسالة التنفيذ وروح الشجاعة والاستبسال ،كما برز فيها التلاحم المصيري بين التنظيمات المدنية والعسكرية من جهة وبين الحزب والشعب من جهة أخرى ،فقامت طائرات الثورة بدك وزارة الدفاع التي كان يتحصن فيها قاسم فانهارت معنوياته وقواه واستسلم للثوار الذين اعتقلوه مع اتباعه وساقوهم إلى دار الإذاعة ، فاستنجد قاسم بأحد الضباط الذي عمل معه في اللواء التاسع عشر وعندما اتصل به أجابه : ( إاتينا بناظم الطبقجلي وسنعفوا عنك ).

لقد كان عمر الثورة قصيراً جداً لم يدم إلا تسعة أشهر فقط، واجهت الثورة الوليدة ،تحديات ومؤامرات كثيرة لم تتح لها الفرصة لإنجاز كل القضايا الداخلية والخارجية التي أعلنت عنها إلا إنها على الرغم من ذلك نجحت في الشروع بتنفيذ الكثير مما وعدت به، كما انها أسست لخطوات استراتيجية كبرى أخرى إعتمدتها الحكومات اللاحقة والتي يعود الفضل فيها الى ثورة ١٤ رمضان المجيدة.

وكان على رأس تلك التحديات والمؤامرات التي واجهتها الثورة ما يلي :

١. تحرك القوى الاستعمارية وحلفائها ضد الثورة لكون هويتها وطنية وقومية جادة وتوجهاتها الوحدوية واضحة.فحركت قواها من أجل إسقاط هذه الثورة الفتية والتخلص من انجازاتها التي تشكل مخاطر على تلك القوى الإستعمارية حتى لا تتوسع رياح التغيير وتغطي الساحة العربية وتهدد مصالحها وخاصة في مجال الخطوات الوحدوية العربية التي خطتها الثورة، وصيانة أراضي العراق من زاخو الى البصرة والشروع ببناء جيش حديث قوي وتوحيد النسيج الاجتماعي في العراق، وغيرها.

٢. وقوف الرجعية المحلية والعربية ضدها ووضع العراقيل أمامها وعلى رأس ذلك نظام الشاه في ايران من أجل تحجيم هذه الثورة وخرقها من الداخل ومن ثم إجهاضها.ومنها مؤامرة بعض المنسوبين لحركة القوميين العرب في نيسان ١٩٦٣ ومؤامرة الشيوعيين في معسكر الرشيد بتاريخ ٣ تموز ١٩٦٣.

٣. قلة الفترة الزمنية للثورة التي اقتصرت على تسعة اشهر فقط والتي لم تتح تطور التجربة وامتلاك الخبرة اللازمة في الحكم لدى بعض قادتها من المدنيين من الذين تسلموا الحكم، بالرغم من غنى واصالة تجربتهم النضالية الثورية ، فالخبرة العملية في فن إدارة الحكم، وتصريف أمور الدولة تتطلب وقتا لم تتحه لها مؤامرة الردة في ١٨ تشرين من العام نفسه.

٤. عدم وفاء بعض العناصر بالتزاماتهم، ونكثهم للعهود من الذين تحالف معهم الحزب في إنجاز الثورة، كما ان عبد السلام عارف الطارء على الثورة والذي لا يعمل بساعة تنفيذها وآخرين، ما لبثوا أن انقلبوا على الحزب الذي جاء بهم الى الحكم وانقضوا عليه في ردة تشرين.

٥. من أكثر الأمور التي تعرضت الى إساءة التقدير والفهم ، وإلى التسطيح الشديد في التحليل، هو الإعتقاد بأن ردة تشرين سنة ١٩٦٣ قد حدثت لحسم خلافات وتباين داخل قيادة الثورة، وليس لإجهاض انجازات الثورة وتوجهاتها وخاصة الوحدوية والتقدمية منها ، والتي كانت تشكل خطورة على بعض القوى الدولية والاقليمية.

ففي ظل اوضاع طبيعية ، وكما هو شأن أي ثورة أوعملية تغيير جوهرية، وبوجود التحالفات التي سبقت ثورة رمضان، فانه من الطبيعي أن تظهر بعض الخلافات في وجهات النظر داخل تنظيمات الثوار حول أسلوب الحكم وكيفية تنفيذ فلسفة الثورة، وهي في بداية تطبيق برنامجها السياسي، وخاصة بعد انتقالها من النضال السري الى المحك الحقيقي في التطبيق وما يترتب عليه من مسؤوليات وتبعات بعد تسلم إدارة الدولة.

ولو كانت الثورة موجودة في ظل أجواء طبيعية ونيّات سليمة محيطة بها، فإنه من الطبيعي والمتوقع أن تُمنَح الثورة الحد الأدنى من الفترة الزمنية اللازمة لمعالجة تلك التباينات في التطبيق ولإختيار الأفضل من بينها والذي يحقق أفضل النتائج للشعب العراقي وينجح في معالجة التحديات التي تواجهها أية ثورة أو تغيير.إلّا ان قوى الردة قامت وبزمن قياسي مثير للريبة بتضخيم الخلافات واعطائها حجما أكبر مما تقتضيه طبائع الأمور، ثم عمدت إلى تشجيعها والتحريض عليها، واستطاعت تلك القوى أن تكسب ود السيئين والعملاء ممن هم في داخل الحكم ، وإثارة المشاكل داخل الحزب في المؤتمر القطري ، مما مكنها أن تنقلب على الثورة وتسقطها وهي لا زالت فتية.

ان قصر الفترة الزمنية الاستثنائي لحدوث الردة، وافتعال تضخيم الخلافات، وقطع الطريق أمام أي من الحلول المؤسسية التي أرادتها الثورة، يشير بوضوح إلى إن الهدف من الردة لم يكن معالجة الخلافات ، وإنما هو إجهاض التوجهات والقرارات الاستراتيجية لثورة رمضان وخاصة الوحدوية منها وهي ميثاق الوحدة الثلاثي بين العراق ومصر وسوريا، وتوحيد الجيش العراقي والسوري وجعله تحت قيادة عامة واحدة ، إضافة الى توحيد اراضي العراق وبناء جيش حديث وقوي، والشروع في البناء التنموي للعراق.

وبهذا تم الارتداد على تجربة الحزب الأولى، من خلال اصطفاف قوى الردة والرجعية والاستعمار من أجل إجهاض توجهاتها، فحرمت الجماهير الوطنية والقومية من هذه التجربة النضالية الرائدة ، إلا ان التاريخ سيحفظ لها شجاعتها وبسالتها وروحها الإقتحامية في إسقاط أعتى النظم الدكتاتورية وأكثرها شراسة، وسيبقى ما أنجزته وما خطت نحوه من توجهات، في فترة زمنية قياسية، منارة في العمل الوطني والقومي للأجيال اللاحقة.






السبت ١١ رجــب ١٤٤٣ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٢ / شبــاط / ٢٠٢٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أبو أوراس نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة