شبكة ذي قار
عـاجـل










الفاو الخالدة.. فتح الفتوح

من الفاتح من رمضان إلى يوم الأيام

د. وحيد عبد الرحمن

 

إذ نستحضر معركة الفاو الخالدة مدينة الفداء وبوابة النصر العظيم التي خطط لها الشهيد المهيب الركن صدام حسين، وقادها ميدانياً خيرة قادة الجيش العراقي والحرس الجمهوري، الفريق الأول الركن إياد فتيح الراوي قائد الحرس الجمهوري والفريق الركن ماهر عبد الرشيد قائد الفيلق السابع ، فإننا نستذكر معركة فتح الفتوح، نهاوند، التي خطط لها الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقادها ميدانياً البطل العربي المقدام الشهيد النعمان بن مقرن المزني وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، لما لهما من سمات مشتركة وترابط وامتداد تاريخي. فنهاود سميت فتح الفتوح لما لها من تأثير كبير على مجمل حركات التحرر والفتوحات الإسلامية حيث فتحت أبواب بلاد فارس أمام جيوش المسلمين وتحقق بعدها اندفاع الجيش العربي الإسلامي إلى الشرق، ومعركة تحرير الفاو بانتصارها الكبير فتحت الأبواب لسلسلة معارك التحرير الكبرى التالية في الشلامجة ومجنون والزبيدات وكيلان غرب حتى تجرع كبيرهم السم ووافق على قرار مجلس الأمن الدولي 598.

في نهاوند كان الفرس قد أقاموا منطقة دفاعية حصينة، حيث نشروا الحسك الحديدية على طول الجبهة لكي تغرس في حوافر الخيل، وكأنها ألغام عصرنا الراهن، كما أغرقوا المنطقة أمام جيشهم بالماء خوفاً وذعراً من المواجهة بجيش النعمان. (ابن الأعثم، ج2، ص296)، فضلاً على الحشد البشري الهائل الذي تجاوز المائتي ألف. وكذا الحال في مثلث الفاو حيث أنشأ الفرس على أمد سنتين منذ احتلالها سنة 1986م منظومة دفاعية بصورة وبصيغة وبأسلوب وحجم لا يمكن لأي مراقب أو محلل أو قائد عسكري في النظر بعين المنطق العسكري الاستراتيجي إلى إمكانية اختراق الدفاعات والقطعات الإيرانية المحتشدة والمدافعة في منطقة الفاو لما شملته تلك الدفاعات من تحصينات طبيعية واصطناعية متتالية وصعبة، ولما تضمنته الدفاعات الإيرانية من حشد ناري وبشري هائل، إضافة إلى حقول الألغام المتتالية والاستناد إلى منطقة المملحة التي يصعب أو يكاد أن يحال عبور الدبابات والعجلات من خلالها بل حتى المقاتلين راجلاً.

في نهاوند شاركت القبائل العربية الأصيلة كافة ضمن الجيش العربي الإسلامي باندفاع عزوم وإرادة صلبة، ومنها قبيلة بني أسد التي كان لأحد رجالاتها موقفاً معنوياً تعبيرياً عن البغض للفرس وعنجهيتهم وحقدهم ضد العرب.

في نهاوند وقبل خوض المعركة أرسل النعمان بن مقرن عنصرين لاستطلاع العدو وجمع المعلومات عن قوته وجاهزيته وتحضيراته للمعركة، هما بكير بن شداخ الليثي وطليحة بن خويلد الأسدي، فمضيا كلاً باتجاه محدد، فأما بكير بن شداخ فإنه عاد مبكراً، وأما طليحة فقد تأخر حيث جمع معلومات دقيقة عن العدو الفارسي، حتى أن المسلمين ساورهم الشك، وتصوروا أن طليحة قد التحق بجيش الفرس، فلما عاد بدأوا يكبرون الله، فاستغرب، فأشاروا له بأنهم ظنوا به سوءاً، فغضب طليحة بن خويلد من ذلك ثم قال: {سبحان الله العظيم، أو يحسن هذا بمثلي؟ والله، إن لو لم يكن لي دين أعتمد عليه إلا أني عربي فقط لما كنت بالذي اختار هؤلاء الأعاجم على العرب، فكيف وقد هداني الله عز وجل إلى دين الإسلام وعرفني فضله}! وهكذا كان بني أسد وغيرهم من قبائل العرب دون أن تجد بينهم ذيلاً أو خائناً أو عميلاً للعدو الفارسي.

وهكذا الحال في معركة تحرير الفاو فجيش العراق الباسل ورجال الحرس الجمهوري الأشاوس كانا عنواناً ورمزاً للوحدة الوطنية العراقية بعد أن نأى بنفسه عن كل إشكال الطائفية والتعصب القومي والمذهبي وسما فوق تلك السواقي الصغيرة وسار حيث دجلة والفرات من شمال العراق حتى جنوبه، ولم يعرف تلك الطائفية المقيتة أو الفرقة العنصرية أو القومية، فقد شارك في هذه المعركة الخالدة ومعارك التحرير الكبرى التي تلتها الضباط وضباط الصف والجنود من الأكراد والتركمان والإزيدية والمسيحيين والصابئة، ومن السنة والشيعة بعزم لا يلين وحزم لا يستكين. وكان من المعيب جداً أن تذكر مثل هذه التسميات في وحدات الجيش العراقي، فاختلط الدم العراقي في كل معارك التحرير الكبرى.

ووفقاً للعقيدة العسكرية العراقية التي كانت لا تسمح بأي اختراق أو احتلال لشبر واحد من الأرض وبعد أن تمكنت إيران من احتلال مناطق واسعة وشاسعة ومهمة من الأراضي العراقية الحدودية مثل مثلث الفاو ومنطقة الشلامجة وجزر مجنون النفطية ومنطقة الزبيدات ومناطق أخرى في القاطعين الأوسط والجنوبي من جبهات القتال فقد أعدت القيادة العامة للقوات المسلحة خطة عسكرية تعرضية طموحة كانت من أفضل ما شهدته الاستراتيجية العسكرية العراقية من تطبيق لمبادئ الحرب، وخاصة مبادئ المباغتة والتحشد والعمليات التعرضية والأمن والشؤون الإدارية وغيرها للمباشرة في تنفيذها مع الضياء الرمضاني الأول من يوم السابع عشر من نيسان عام 1988م بالهجوم على القوات الإيرانية وتمكنت من تحقيق نصر عسكري سريع ومباغت خلال ساعات لم تتجاوز الست والثلاثين وليس أياماً.. ففي اليوم الأول من شهر رمضان المبارك اندفعت القوات العراقية من خطوط شروعها بأسودها الكواسر وأنجزت مهامها قبل غروب اليوم التالي ثم توالت العمليات التعرضية العراقية في المناطق الأخرى المحتلة الكائنة شمالاً، فاحتشدت القوات العراقية في منطقة الشلامجة بعد أقل من شهر من عمليات الفاو لتجهز على القوات الإيرانية وتحرر هذه المنطقة لتنتقل بسرعة إلى جزر مجنون وتحطم القوات الإيرانية فيها وتأسر الآلاف منها، وهكذا استمرت العمليات لتشمل منطقة الزبيدات ثم القاطع الأوسط حتى استعادت كل الأراضي العراقية المحتلة بعد أن أوقعت خسائر هائلة في صفوف وأسلحة ومعدات وتجهيزات القوات الإيرانية والتي فرضت على الحرب أن تضع أوزارها بالنصر الناجز.

ذلك هو النصر المبين في يوم الأيام فكانت الفرحة الكبرى التي عبر فيها أبناء العراق الصامد وأمتنا العربية المجيدة عنها بشتى الوسائل والأساليب باعتبارها نصراً مبيناً وساحقاً تحقق فيه تحطيم وتهديم وتهشيم وتقزيم ذلك الجيش الإيراني وحرس خميني والبسيج الذين سخرهم الملالي لتحقيق مشروعهم الخبيث وأحلامهم المريضة فيما سمي بتصدير الثورة. فكانت البوابة الشرقية للوطن العربي المصد والصخرة الصلبة التي وقفت لحماية الأمة برمتها، فأوقعت الهزيمة المنكرة بالرغم من أن الجيش الإيراني كان يعتبر الجيش الخامس عالمياً من حيث القوة والتسليح والعدد، وبالرغم من أن نفوس إيران وجغرافيتها تعادل أربعة أضعاف نفوس العراق وجغرافيته.

وهنا لابد من الوقوف على أسرار هذا النصر المبين، ولعل أهم تلك الأسرار تكمن في أن جيش العراق بتاريخه المشرف ومواقفه المبدئية الثابتة على الحق كان عنواناً دائماً للوطن ودرعاً لوحدته وحمايته ووعاءً كبيراً لمكوِّنات الشعب التي انصهرت لتكوِّن جيش العراق الذي ارتقت مهامه للدفاع عن حياض الوطن ضد كل أنواع التهديدات الخارجية للحفاظ على حدوده وسلامة أراضيه واستقلاله وسيادته الوطنية.

وكذلك اعتبر جيش العراق هو جيش الأمة العربية أينما دعت الحاجة له، فكانت القوات المسلحة العراقية سور الوطن العالي وسياجه المتين وحصن الأمة المنيع، فالجيش العراقي الباسل بني على أسس أخلاقية متينة ارتكزت على النُبل والمهنية والفروسية والقيم الأخلاقية العالية.

وإن التحليلات والتقديرات كافة في المعايير والحسابات العسكرية التقليدية ترتكز على مبدأ تحشيد ثلاثة أضعاف العدو للتمكن من دحره، فالحرب هي صراع بين إرادتين متناقضتين يستهدف كل طرف كسر إرادة وشوكة الطرف الآخر من خلال تأمين متطلبات التدريب والتسليح والتنظيم والجاهزية القتالية والتفوق العددي، بينما اعتمد جيش العراق وقيادته الوطنية على مبدأ الروح المعنوية وقناعة المقاتل العراقي بعدالة القضية التي يقاتل من أجلها بالدرجة الأولى وبالصبر والإرادة والإيمان العميق بحتمية النصر ارتكازاً على قوله تعالى: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين)، إضافة إلى مبادئ الحرب الأخرى المتمثلة بوضوح وتوخي الهدف، والمرونة والمناورة والأمن والمباغتة وتأمين الشؤون الإدارية وغيرها ليحقق ذلك النصر العظيم، ولعل ذلك كان يمثل سراً آخر من أسرار يوم الأيام.

ومن الأسرار الأخرى التي أسهمت في هذا الاقتدار والانتصار تمثل في الاستراتيجية العسكرية التي تبنتها القيادة العامة للقوات المسلحة العراقية بقيادة الشهيد المهيب الركن صدام حسين رحمه الله في القرار على التحول من الوضعية الدفاعية على طول الحدود مع إيران في مختلف قواطع العمليات إلى الوضعية الهجومية التعرضية ابتداء من معركة تحرير الفاو وعبر معارك التحرير الكبرى الأخرى في الشلامجة وجزر مجنون والزبيدات وكيلان غرب. فالاستراتيجية العسكرية تسعى إلى تحقيق أهداف السياسة عن طريق الاستخدام الأمثل لكافة الإمكانات والوسائل العسكرية المتوفرة، وقد لا يتحقق الهدف إلا باتباع أسلوب هجومي لتحرير الأراضي المحتلة من قبل العدو، وقد يكون من الضروري أحياناً للوصول إلى الهدف النهائي للسياسة تحديد وتحقيق عدد من الأهداف العسكرية المرحلية التي يؤدي تحقيقها إلى إحداث تغييرات حادة وهامة في الموقف الاستراتيجي أو إلى توجيه الوضع الاستراتيجي باتجاه يؤدي حتماً إلى الهدف النهائي. وهكذا كانت أسرار هذا النصر المبين.




الاثنين ٢٦ رمضــان ١٤٤٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٧ / نيســان / ٢٠٢٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. وحيد عبد الرحمن نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة