شبكة ذي قار
عـاجـل










صفحة واحدة من صفحات الحرب العراقية الإيرانية يحاول الايرانيين وعملائهم ان يكتبوا لها الضياع لما لها من أهمية لاحقة امتدت خارج نهاية تلك الحرب وظلت تؤثر في العراق حتى اندمجت بصفحات احتلال 2003 ودورت الى مابعد الاحتلال واعيد صناعة مخلفاتها من نفايات وبقايا حثالات بشرية اضيف لها مكملات سيكولوجية هجينة تم طرحها في سوق العمالة والرذيلة لتكون صنف معدل من درنات الزمن الغابر الذي يمر به العراق الان ، ظاهرة التوابين التي ظلت خارج التوثيق والتي تعتبر نتاج أوسع عملية غسيل مخ في تاريخ البشرية وتاريخ الحروب على الإطلاق. مع ظهور علم النفس كعلم له مصطلحاته المستقلة تفرع عنه مصطلح الحرب النفسية، وهو وصف جديد لنشاط قديم عرفته البشرية، كثيرا ما يترافق مع الحروب من قبيل استخدام الحرير والأفيال لتخويف الأعداء وخيولهم واستخدام المؤثرات الصورية والصوتية. ومع تطور فن الحرب ظهر مصطلح آخر مستمدا من الحرب النفسية ألا وهو غسيل المخ. والتعريف الأبسط له هو عملية تحويل الأفكار بوسائل ضغط خارجية.

أول ظهور للمصطلح كان مقترنا بأساليب الحكم الشيوعي في الصين للتخلص من البرجوازية، ومنها إيجاد معسكرات مورست فيها عملية غسيل المخ . على أن المصطلح اشتهر أبان الحرب الكورية 1950- 1953.. إذ تم استخدام الأسرى الأميركيين في دعاية عقائدية تظهرهم بمظهر من اعتنق الشيوعية، بعدها أصبح المصطلح من أدوات الإعلام والسياسة وشاع شعبيا كذلك حتى وقوع الحرب العراقية الإيرانية ليعود إلى ذروة استخدامه كأداة في الحرب.

لم يحدث في تاريخ البشرية على هذا النطاق الواسع أن تم تحويل عقيدة الأسرى ومن ثم استخدامهم بالقتال ضد المعسكر الذي كانوا فيه والى جانب القوة الآسرة مثلما حدث مع أسرى الجيش العراقي من قبل إيران بين عامي 1980- 1988، فقد تم تحويل قناعات الأسرى عبر ما نراه أكبر عملية غسيل مخ في التاريخ أسس بهم آسرهم جيشا لمقاتلة بلدهم وانتهى بعضهم إلى البقاء نهائيا في بلد عدوهم الأول بعد آن تبنى عقيدته السياسية.

التوابون ... تاريخية التسمية :
التوبة التوب التائب التواب التوابون كلها تسميات قرآنية تكررت كثيرا للإشارة إلى الإقلاع عن الذنوب والعودة إلى الالتزام بالأوامر الدينية والانتهاء عن نواهيها. وظلت المصطلحات هذه محافظة على صبغتها العبادية المحايدة حتى ظهور حركة التوابين في التاريخ الإسلامي والتي أسسها خمسة هم : سليمان بن صرد الخزاعي والمسيب بن نجبه الفزاري وعبد الله بن سعد بن نفيل الازدي وعبد الله بن وال التميمي ورفاعة بن شداد البجلي، في محاولة للأخذ بثار الحسين بن علي بن أبى طالب حفيد النبي الذي جاء مقتله كامتداد للصراع الإسلامي الداخلي على السلطة، وقد تأسست الحركة عام 65هجرية في النخيلة وانتهت بمقتل التوابين في معركة عين الوردة الشهيرة.

ظاهرة التوابين الحديثة ...
منذ الأيام الأولى للحرب اخترقت إيران معاهدة جنيف الدولية حول الأسرى وتبادلا إظهار الأسرى على شاشة التلفاز، كما تخلل ذلك زج الأسرى في الدعاية السياسية، وبما أننا على الجانب الإيراني لدراسة الظاهرة فقد أصبحت المقابلات مع الأسرى نشاطا إعلاميا إيرانيا يمارس على مدار الساعة، وهو ما نعده بواكير عملية غسيل المخ ابتداء من أول خطوة للأسير على الأراضي الإيرانية، أما فعل الدعاية السياسية قبل ذلك فمع أن إهماله غير صحيح إلا انه لا يدخل ضمن الوسائل القهرية في عملية التحول الفكري.

استعان الإيرانيون بتسميات تصلح كأرضية للبناء الذي أرادوا تشييده بأحجار الأسرى، فهم استخدموا تسمية ضيوف الجمهورية الإسلامية بديلا عن تسمية أسرى وحاولوا إيجاد منفذ ذهني حينما اعتبروا الأسرى العراقيين ضحايا نظام سياسي ساقهم مجبرين للحرب.

توزع الأسرى العراقيون في إيران على معسكرات أسر عديدة منها معسكر أراك ومعسكر بروجند ومعسكر الحشمتيه وبرندك ومعسكر تختي ودزبان وثقلهم كان عموما في منطقتي طهران ومشهد.

لا يمكن تحديد لحظة زمنية بعينها لبداية عملية غسيل المخ إلا انه لابد من الإشارة إلى الظروف المساعدة على إتمامها كأكبر وأنجح عملية غسيل مخ في تاريخ الحروب النظامية.

كانت الحرب مسبوقة بعملية الهروب الجماعي لكل المتعاملين مع ايران من العراقيين والذين انكشف امر اغلبهم لدى الأجهزة الامنية وعند وصولهم اطلق عليهم صفة " المهاجرين " ليكونا خميرة العجين للمجتمع الثاني .

" مجتمع التوابين " بدء التماثل المذهبي بين الآسر والمأسور بعمليات غسيل المخ التي جرت وفق أصول تنم عن إتقان في الصنعة وفهم لأساليب الحرب النفسية، وجاءت تطبيقاً لقواعد لا تقبل العشوائية أو الافتراضات المبنية على تضخيم العطف المذهبي .

ونحن نفترض أن عملية غسيل المخ نفسها ستتم بنفس النجاح حتى بغياب العطف المذهبي بل وحتى بغياب التماثل الديني، ومن المسلم به أن تلك العملية شملت الأسرى بمختلف الأديان ومختلف الطوائف ولقيت مقاومة كذلك من الشبيه النوعي. والبداية الأخرى وجود مجتمعين عراقيين في إيران. أما بداية البداية فهي البرنامج الإيراني المنظم لأجراء عملية تاريخية بكل المقاييس لغسيل المخ.

في التطبيق :
يشير اغلب الأسرى إلى أن عملية الفرز تتم حتى قبل وصول الأسرى إلى أقفاص الأسر، والمقصود بالفرز تصنيف الأسرى وفقا لاتجاهاتهم الفكرية ومواقفهم من الحرب ومن النظام السياسي الإيراني، ونعتقد أن هذه العملية حتى بفرض صحة وقوعها ليست هي الحلقة الأولى وقد لا تتعلق بالبرنامج الأساسي الذي بدأ في معسكرات الأسر وبعد مضي أشهر عدة على الحرب التي اتجهت لتكون حرباً طويلة الأمد بما يكفي لتطبيق برنامج نفسي متكامل الأركان.

في داخل معسكرات الأسر أنيطت مهام محددة بالأسرى أنفسهم كواجبات حفظ النظام داخل القاعات والمساعدة في توزيع الطعام وإدارة المكتبات وإدارة شؤون الصلاة وقتا ومكانا ومستلزمات، فصار هناك الأرشد والارشد كل والدزبان وكل هؤلاء من بين الأسرى أنفسهم، ومع الوقت أعطيت لهم صلاحيات الآسر على المأسور وصاروا القوة الأساسية داخل المعسكر، أما من خارج المعسكرات فيأتي المبشرون أو حسب التسمية نصا المبلغون وهم رجال دين إيرانيون وعراقيون ثم اقتصر على العراقيين فقط، وعملهم الأساسي بث الدعاية السياسية لصالح النظام السياسي لإيران وتخطئة النظام السياسي في العراق.

بما ان تتبنى إيران نظام ولاية الفقيه أي حكم الفقيه الجامع للشرائط، وهو نظام كتب فيه علماء دين شيعة ايرانيين وأنضجه تأليفا منتظري فيما فرض تطبيقه الخميني الذي كتب فيه هو الآخر، وقد فرض هذا النظام على معسكرات الأسر كعقيدة سياسية يثاب من أخذ بها وتصعب حياة من تركها ويعاقب أشد العقاب من عابها ويقتل من قاومها، وقد سجلت هكذا حوادث في كل معسكرات الأسر دون استثناء.

أصبحت زيارة المبشرين إلى معسكرات الأسر نشاطا منظما له هدف محدد وهو حمل الأسرى على اعتناق ولاية الفقيه كعقيدة سياسية وزرع العداوة في أذهانهم وأنفسهم للمعسكر الذي جاءوا منه فتم اعتماد تقسيم ابتدائي للأسرى يضعهم في ثنائية المؤمنين والبعثيين حيث يعتبر مؤمنا كل من يأخذ برؤية آسره وان كان غير ملتزما بشرائط الدين ويعد بعثيا كل من قاوم فكرة التحول العقائدي وان صام وصلى،

مع زيادة البرنامج المنظم للمبشرين وبينهم شخصيات معروفة صار للمبشر داخل معسكرات الأسر أتباع ومقربون شكلوا نواة التنظيم الذي سيرى النور كنتاج لعملية غسيل المخ في طورها الابتدائي.

كانت عملية الفرز تجري داخل المعسكرات دون اسم محدد ثم جاءت تسمية المؤمن والبعثى، ويمكن القول أن الذي يسمي خصمه بالبعثي لم يكن له اسم محدد في بداية الأمر أنه مجرد مناصر للجهة التي أسرته والتي تطرقت عقائدها إليه بفعل ما أشرنا إليه من بدايات حتى جاءت تسمية التوابين.

بما إن إيران أخذت بتسمية ضيوف الجمهورية الإسلامية مكان تسمية أسرى، ويشاع أن أول من استخدم مصطلح التوابين هو الخميني شخصيا عندما قابل مجموعة أسرى عراقيين جلبوا إلى مقر إقامته في شمال طهران حيث يقال إنه سأل عن الحاضرين فقالوا إنهم أسرى عراقيون فقال بل هم التوابون، والذي نعتقد أن التسمية كانت حاضرة في ذهن القائمين على الحرب النفسية في إيران أكثر من حضورها في ذهن الخميني، ذلك أن المصطلح يستدعي إلى الذهن عدة معان:

أولها: أنه يدين بصراحة الفعل السابق للأسير ويرفعه إلى مرتبة الجرم الذي يستدعي التوبة.

وثانيا: يذكر بمجموعة تعاهدت على الموت للأخذ بثار الحسين وأيضا يشير إلى قرب التواب من الله، وهذه المعاني حققت للمسمي ما أراد لكن كان لها أثر مستقبلي مدمر على المسمى.

العزل الإعلامي واحد من مبادئ عملية غسيل المخ لذا تم قطع الأسرى عن العالم واغرقوا في المقابل بالكتب الدينية التي تحمل عقيدة الآسر، والمبدأ الآخر مبدأ الإذلال والإخضاع فاجبر الأسرى على برنامج ديني على قائمته المبشر وأداء فروض الصلاة، وهو برنامج قسري لا يمكن لأي أحد مقاومته أسوة بعمليات التعداد الروتيني التي تجري فجرا وتستمر عدة مرات على مدار اليوم.

يعتبر الحرمان من النوم والماء والطعام أساليب جدا تقليدية في سياق عملية غسيل المخ وقد استخدمت هذه الأساليب في كل المعسكرات ضد الذين يقاومون عملية اعتناق عقيدة آسريهم بينما ينال أولئك الذين انضموا إلى معسكر آسرهم نصيبا أوفى من الطعام والشراب ويحصل على معاملة تفضيلية.

استخدمت العقوبات الجسدية ضمن البرنامج الإيراني لعملية غسيل المخ ضد الأسرى العراقيين وتتراوح العقوبات بين الوقوف في العراء تحت الثلج في ليل إيران البارد وبين الإغراق بالماء البارد والضرب بالعصي.

وحينما تشكلت أولى أفواج التوابين تحت التسمية الجديدة تحولت حياة بقية الأسرى إلى جحيم ليس له مثيل ودخلت أساليب جديدة على الصعيد النفسي تتناسب وطبيعة المجتمع العراقي المدموغة بالقسوة.

قسم معسكر الأسر إلى توابين وبعثيين فمن تبنى العقيدة السياسية للدولة الآسرة سمي توابا بينما سمي بعثيا كل من رفض ذلك وان كان ليس له علاقة بحزب البعث. واعتز اكثر الأسرى بهذه التسمية و كان لها وقع كبير ومفعم بالفخر على من تطلق عليه خاصة من أولئك الناس الذين ليس لهم علاقة بحزب البعث وكانوا مجرد جنود فرض عليهم واجب حربي نفذوه من منطلق عسكري وليس من منطلق حزبي

مالت الأساليب المهمة في عملية غسيل المخ إلى جانب الترغيب أكثر من الترهيب مع أن هناك ضحايا سقطوا قتلى في أماكن عدة حينما تحولت المعسكرات إلى ساحة حرب. وقد تفنن المبشرون بأساليب الترغيب،

وكانت المقارنة تعقد بين أسر طويل الأمد لا نهاية محددة له تحوطه أسلاك شائكة يقع في جبال وعرة يومياته الحرمان من النوم والاستماع الجبري وجوع وعطش وضغوط جسدية ونفسية وبين حياة وسط مجتمع مدني يقبل بتزويج الغريب وتحنو عليه وتوفر له كل أسباب الراحة وقبل كل شيء نيل الحرية علما أن الوعد بالحرية والخلاص من الأسر يكفي وحده لإنجاح التحول العقائدي لأنه يتحول إلى ضغط رهيب تصعب مقاومته من قبل الأسير بما في كل كلمة الأسر من معنى.

تفيد شهادات الأسرى أن الضغوط الجسدية التي تحولت إلى عنف مباشر إنما وقعت ضدهم من قبل أقرانهم حيث ارتأى القائم على عملية غسيل المخ أن يدخل الأسرى في صراع بيني لذا أطلقت يد الأسرى المتحولين إلى جانب ولاية الفقيه أي من سموا بالتوابين ضد الفريق الأخر أي البعثيين وقد سبق وان عرفنا المعني بهذه التسمية.

ومن الأساليب الناجحة التي اعتمدها الإيرانيون أسلوب نقل الأسرى من معسكر إلى آخر، فمع أن عملية غسيل المخ بدأت في كل المعسكرات إلا إنها نجحت في معسكر وتأخر نجاحها في آخر، فعمد الإيرانيون إلى نقل التوابين إلى المعسكرات الأخيرة في إطار عملية تسمى الفتح، فيقوم هؤلاء بفتح المعسكرات التي تشهد استعصاء على عملية التحول العقائدي حيث تسحق بالقوة أي مقاومة أمام أساليب غسيل المخ ومن بينها برامج الاستماع والمشاركة الجبرية في فعاليات مختلفة، والى المعسكرات التي شهدت تقدما يجلب أسرى المعسكرات المستعصية.

طالت أساليب عملية غسيل المخ الحقوق التي ترتبها المعاهدات الدولية حول حقوق الأسرى كحق المراسلات، ولا نعني هنا أن التوابين حصلوا على هذا الحق مقابل حرمان الفريق الأخر منه، ذلك أن عملية غسيل المخ طالت علاقة التوابين بذويهم ونحتت كثيرا من جرف عواطفهم سيما أن عملية غسيل المخ لم تترك مجالا على صعيد بث مشاعر الكره في نفس التواب ضد ماضيه بالكامل، وقد انحصر أسلوب استغلال المراسلات في الضغط على نفسية الفريق غير المستسلم بقطع المراسلات عنه من خلال عدم تمكين الصليب الأحمر من الوصول إليه وكانت هذه من السياقات المعروفة في تبادل الاتهامات بين البلدين، وقد ظل مصير عشرات الآلاف من الأسرى مجهولا إلى وقت متأخر واستمر مع البعض حتى نهاية الحرب ووقوع عملية تبادل الأسرى.

إن العناصر الأساسية في عملية غسيل المخ التي قامت بها إيران ضد الأسرى العراقيين تراوحت بين:

1. العقوبات الجسدية والنفسية.
2. برامج إجبارية تحمل دعاية سياسية مباشرة.
3. العزل عن العالم ومن ثم الهجوم على عقل الأسير الذي يصبح أكثر قابلية للتصديق كلما اشتدت عزلته عن العالم.
4. الترغيب بمباهج الحياة.
5. العنف المباشر .
6. الإذلال وكسر الإرادة.
7. استغلال الدين مباشرة.
8. الحرمان من الحقوق الأساسية.
9. إظهار العواطف الزائفة من قبيل احترام الأسير والحنو عليه.

( عند هذه النقطة تكون إيران قد سجلت سابقة في تاريخ الحروب فيما يخص مسالة التحرك على الأسرى لكسبهم ذلك أن الحكام الإيرانيين لم يسبقهم أحد في كثرة اللقاء بالأسرى (المتحولين) أو( نصف المتحولين) في معسكراتهم أو استقبالهم في احتفالات عامة وسارت الأمور على وتيرة غير معهودة ولا مسبوقة في إشراك الأسرى بنشاطات تهم الدولة ، فقد كانت أفواج منهم تجلب لحضور صلاة الجمعة في جامعة طهران وأخرى تأتى لمقابلة الخميني وترسل أخرى لزيارة أماكن دينية بعينها كمشهد الإمام علي بن موسى الرضا في خراسان أو ضريح أخته في مدينة قم، ومثل هذا النشاط يعد اختراقا مباشرا لمعاهدة جنيف حول الأسرى لان العملية برمتها مفردة في برنامج شامل لعملية غسيل المخ.)

10. الترهيب بسلب حق الحياة وقد أزهقت أرواح أسرى قاوموا عملية غسيل المخ. إن الذين قاوموا هذه العملية قتلوا أو أرسلوا إلى سجن قلعة مخصوص في قمم جبال خراسان وتشير تقارير سرية عن وجود عدد منهم إلى الآن ومنهم الرفاق البعثيون من الكوادر الوسطية.

الشق الثاني:
لم يبق خبر العملية سرا لأن نطاقها ، لذا شاع خبرها وما لم يكن غير متوقع أن يكون لهذه العملية توظيف خارج الحرب النفسية بل يصل إلى استغلال الأسرى مباشرة في الحرب ضد الخندق الذي جاءوا منه، ونحن هنا نوثق أول عملية من نوعها في التاريخ لأن الأسرى في كل الحروب خضعوا لعمليات غسيل مخ يختلف مستواها ومحتواها إلا أنه لم يحصل أن تم تحويل الأسرى إلى جنود مقاتلين في حرب نظامية لأسباب عسكرية قبل أن تكون أسباب أخلاقية لكن إيران سجلت هذه السابقة التي يراد لها أن تدفن تحت ركام الحروب المتلاحقة، والتي لم تأخذ نصيبها من التوثيق فضلا عن دراستها عدا محاولات متفرقة انصبت في متابعات صحفية يتيمة تحدثت عن تجنيد الأسرى العراقيين من قبل إيران.

بموازاة عملية غسيل المخ التي جرت لعشرات الأسرى العراقيين كانت هناك جهود تبذل لإيجاد أطر تستوعب نجاح العملية وتستثمرها، ففي عام 1986 أسست إيران ائتلافا ضم الشخصيات المتعاونه معها و الهاربة من العراق

وأوجدت له جناحا عسكريا جنوده الأسرى العراقيون المتحولون عقائديا ممن تعرضوا إلى عملية غسيل مخ منظمة وفق أسس علمية، وبدأت عندها ما سميت بالدورات، وتعني الدورة مجموعة الأسرى التوابين الذين يخرجون من الأسر إلى معسكر التدريب ليلتحقوا بالجبهة في إطار تنظيم عسكري بدا كوحدة صغيرة بمرتبة كردان أي فصيل ثم تيب أي فوج ثم لشكر أي فيلق سمي بفيلق بدر.

كان التدريب العسكري للأسرى " التوابين " يتم في معسكر ورامين أسفل العاصمة الإيرانية طهران يشرف عليه ضابط عراقي متحول " معروف الاسم والكنية " وبعد دورة مكثفة يراقب خلالها سلوك التواب أيضا ويتم التحقق من نجاح عملية غسيل المخ يرسل إلى جبهة القتال.

بانتقال الأسرى من معسكرات الأسر إلى جبهة القتال على الجانب الإيراني ضد الجانب العراقي دخلت التاريخ الحربي صفحة مختلفة عما سواها ليس لها من سابق، وقد كانت عملية غسيل المخ في بدايتها من القوة بحيث أن التواببن أنفسهم كانوا في عمليات القتال مندفعين إلى الموت بأفكار جديدة حول طبيعة المواجهة بين البلدين هي خلاصة الرؤية الإيرانية الدعائية التي تصنف الحرب على إنها صراع بين الحق والباطل وبين فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر.

اشترك التوابين في عمليات حاج عمران وعمليات حلبجة وعمليات الفاو والمرصاد والأخيرة تعد من قبلهم الإنجاز المبرز، وكانت ضد تنظيم مجاهدي الشعب (خلق) الذين اندفعوا إلى العمق الإيراني بعد وقف إطلاق النار من منطقة سربول زهاب، علما أن هناك من شارك في معارك كربلاء .

تميز مجتمع التوابين بالانغلاق الفكري على ولاية الفقيه وضغط الإيرانيين بشكل ممنهج في التعصب لها وحملوا الكره لماضيهم والتنصل منه خاصة ماضيهم العسكري والاجتماعي وأوجدوا فيما بينهم وبين أنفسهم تاريخا تتناسب معالمه مع الأفكار التي أمدتهم بها عملية غسيل المخ وتشبعوا بروح الحقد على كل ماهو اصيل لأهلهم ولبلدهم، وكان تعصبهم لإيران ظاهرا في أدق الأمور وشاع بينهم التعصب حتى لذباب إيران وبعوضها وقططها، وما كنت اذكر هذا لولا أنني شهدته عبر حوادث شخصية.

كانت الدورات الأولى تضم صفوة الذين نجحت معهم عمليات غسيل المخ نجاحا باهرا فكان إخلاصهم لإيران لا يمكن مقارنته بأي إخلاص آخر، أما الدورات المتأخرة والتي جاءت حتى بعد نهاية الحرب العراقية الإيرانية فضمت في صفوفها جنود تظاهروا بالتحول للخلاص من الأسر.

المصير:
تعني عملية التفكيك خروج الأسرى من معسكرات الأسر إلى معسكرات التدريب ثم جبهات القتال، وكانت قبل ذلك تعني تفكيك كتلة الأسرى إلى موالين لإيران وغير موالين لها، أي الفرز وبعد خروج الدفعات الأولى من التوابين انقسموا إلى قسمين الأول خرج إلى الحياة والآخر بقي مسجلا على قوائم الخروج داخل المعسكرات نفسها.

وبعد عملية تبادل الأسرى بين البلدين رفض التوابون الذين في الخارج فكرة العودة إلى العراق وندر من عاد منهم ليشكلوا اعادة تنظيم فيلق بدر بعد احداث الكويت إلى 15 ألف أسير أو تواب أو متحول أيا كانت التسمية، بينهم مقاتلون غير أسرى من مجتمع المهاجرين، لكن ادارة فيلق بدر وقيادته كانت بأيدي التوابين.

كانت الفترة الفاصلة بين توقف الحرب وبداية احداث الكويت ومقدمات حرب الخليج الثانية سنة خرج خلالها عدد من التوابين ليختلطوا بالحياة الإيرانية وكان الكثير منهم قد فعل ذلك وهو في صفوف فيلق بدر مقاتلا فنزلوا إلى الريف الإيراني ليتزوجوا من القرويات وترك بعضهم فيلق بدر ليجد لنفسه عملا سيما أنهم منحوا اقامة كلاجئين وهي عملية غريبة لأناس مسجلين كأسرى على قوائم الصليب الأحمر الدولي.

كان مصير التوابين ليس واحدا فمنهم من قتل في جبهات الحرب ودفن في بهشت زهراء ومقبرتي قم ومشهد، ومنهم من تزوج وأنجب واستقر في إيران منسلخا إلى الأبد من ماضيه، ومنهم من بقي ضمن صفوف فيلق بدر خائضا كل المعامع التي دخلها ضد بلده ومنها الاندفاع في العمق العراقي عام 1991 أبان أحداث آذار المعروفة، وفي السنوات اللاحقة لذلك التاريخ اتصل قسم من التوابين بالأمم المتحدة مستعينين بأرقامهم عند الصليب الأحمر فوفرت لهم الأمم المتحدة بلدا ثالثا، ومنهم من أراد التخلص من ارث التوبة فهرب بقدراته الذاتية إلى بلدان العالم المختلفة وقدم هناك طلبا للجوء كعراقي ، أما الكتلة المتبقية على صلابتها فظلت تبعا لآثار عملية غسيل المخ تخدم ضمن صفوف فيلق بدر وصولا إلى عام 2003 ليتم غزو العراق ويعود التوابون كعماد لمجلس الحكيم في العراق ومن ثم ذهبوا مع هادي العامري الذي طمس اسم المليشيا ليتم تحويلهم اسميا إلى منظمة بدر.

كانت عملية غسيل مخ الأنجح من نوعها في تاريخ الحروب، وكان الذي تحقق منها خارج كل تصور، فالذي أفادته كوريا ومن ورائها الصين من تلك العملية دعاية سياسية وقتية التأثير محدودة الأثر نفذت على عدد قليل من الأسرى، أما مع هذه العملية فقد حققت إيران ما لم يسبق أن حققه أحد قبلها، لقد استطاعت آن تحقق بالحرب النفسية ما عجزت عن تحقيقه بالحرب النظامية.

لم يحدث أن قاتل أسرى بهذا العدد بلدهم، ولم يحدث أن أثر أسرى في مجريات الأمور ببلدهم مثل الأثر الذي أحدثته قضية التوابين في العراق، ولم يحدث عبر التاريخ آن وقعت عملية غسيل مخ بهذه الشكل وبهذا الحجم

مثل كل العمليات الجراحية تركت عملية غسيل المخ أثرا جانبيا على التوابين فقد اخذوا ينفرون من تسمية التوابين واستشعروا ثقلها وتحولت في داخل المجتمع العراقي بإيران إلى ما يشبه العار أو السبة وانعزل التوابون منكفئين على أنفسهم فهم غير مقبولين أيضا من المجتمع الإيراني وخاصة مجتمع المدينة لا مجتمع الريف المعبأ لصالح ولاية الفقيه.

لم يكن مجتمع المهاجرين كما سموه الايرانيين ومن ثم مجتمع عام ١٩٩١ وهو مجتمع لاحق ليحب التوابين فرفض تزويجهم وتجنب التعامل معهم وأخذ ينظر إليهم بنظرة عدم ارتياح، وكانت التسميات داخل فيلق بدر تدل على عمق الانقسام، فقد كان كل قوم ينادون باسمهم: هذا تواب وهذا منتفض، ولولا الفروقات لما أوجدت التسميات.

هذا الجهد بين الضعف قليل الأرقام ظاهر المعايب سميناه دراسة تجاوزا بينما هو ليس إلا محاولة لتوثيق ابتدائي لعلمنا أن هناك من يملك أرقاما تستحق التسجيل وخاصة من نفس التوابين ومن شخصيات برزت في مجال السياسة والإعلام قل عليها تأثير تلك العملية وبدأت تزن الأمور بمقاييس العلم لا مقاييس العواطف.

وبما ان توابين الأمس هم حكام اليوم متصدرين المشهد السياسي والأمني والمالي فضلا عن الإعلام ممول ايرانيا فهم يقصمون ظهر كل من يفكر كتابة نص من هذا النوع لما له من علاقة بالأمن القومي العراقي حسب زعمهم وله وقائع ودلالات مخزية بحجم الضرر والأحداث منذ عام ١٩٨٠ إلى يومنا هذا وله ارتباط بالتأثير الإيراني التي عرفت منظومتها المتخصصة بالعمق العراقي كيف تعالج نفايتها البشرية وتدوريها بشكل يؤمن لها حالة من التصرف والتحكم والتنفيذ المباشر في مقادير بلد مثل العراق يشكل لديها " عاهة مستديمة " وحقب زمنية متواصله ذاقت فيها من الذل والنكسات والماضي الأسود ما لم تذقة شعوب الارض من الأف السنين .

للمراسلة
alitmula@yahoo.com





الخميس ٧ رجــب ١٤٣٧ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٤ / نيســان / ٢٠١٦ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب علي الملا نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة